الفصل التاسع
العشرية الحمراء: نقطة سوداء في تاريخ الجزائر هيمنة الرداءة والعنف (1989-1999). كانت أحداث أكتوبر تمثل نقطة فاصلة، ومثيرة ليس لإقامة نظام ديمقراطي كمايعتقد الناس، بل لإنقاذ النظام وتحويل السلطة لصالح منظمي هذه الأحداث، وكلهم موالون لبعض الدوائر الفرنسية. وبعبارة أخرى، فإن أتباع العربي بلخير وحمروش، الذين كانوا المحرضين على أحداث أكتوبر، قد اختاروا«التغيير» كأداة ضرورية لديمومة النظام وتعزيز مواقعهم الشخصية. فقد كان التكتلان يعتمدان -بطريقة ما- على فرنسا التي لم تكن تضع كل بيضها في نفس السلة. لقد ظل فرانسوا ميتران، الذي كان آنذاك رئيسا للجمهورية، ينتظر بشغف سقوط نظام حزب جبهة التحرير الوطني، وكان يعتقد أن الساعة قد حانت «لإقامة الديمقراطية» وذلك أثناء كلامه عن الأحداث خلال مجلس الوزراء ليوم 12 أكتوبر 1988(1)، أي يوم واحد من عودة الهدوء في الجزائر. إن اتخاذ موقف من هذا النوع وبهذه السرعة يعكس في الحقيقة تورط فرانسوا ميتران في مسار«الدمقرطة » في الجزائر، بغية تحطيم جبهة التحرير الوطني، ولما كان بعض المسؤولين الفرنسيين من بينهم فرانسوا ميتران وبعض الأجهزة في الإدارة الفرنسية، إبان ثورة التحرير، من مناضلي «الجزائر الفرنسية» والحرب المتواصلة ضد جبهة التحرير الوطني وضد الشعب الجزائري، فإنهم وجدوا ضالتهم لتصفية حساباتهم مع التاريخ والحركة الوطنية الجزائرية. ولكي نفهم جيدا حيثيات العشرية الحمراء التي كرست بروز «حزب فرنسا» في الجزائر، سنقسمها إلى مرحلتين تختلفان من حيث طول المدة لكن لهما نفس الأهمية.
1- مرحلة 1989-1991: بعث ديمقراطية الواجهة. إن تعيين قاصدي مرباح كوزير أول في نوفمبر لفترة قصيرة (نوفمبر 1988- سبتمبر 1989) قد استغله جناح حمروش من أجل احتلال وضعية أحسن من السباق نحو السلطة، ظانا أنه سيهزم جناح بلخير. من المؤكد أن رأسي هذين الجناحين يحتاجان إلى ثقة الرئيس الشاذلي خلال تلك الفترة لينفذوا مخططاتهم الشخصية بإحكام. لكن حمروش المتلهف ضاعف من نشاطه. فقد كان حاضرا بقوة في تحضير المؤتمر الخامس لجبهة التحرير الوطني (نوفمبر 1988) وفي الانتخابات الرئاسية (ديسمبر 1988). وكان يبالغ في تنشيط الفريق المكلف بتكييف الدستور الفرنسي مع وضعية الجزائر، وهو الدستور الذي تم تبنيه في فيفري 1989. وفي نفس الوقت كانت مجموعته التي ينشطها غازي حيدوسي تحضر له في السر برنامج حكومته الذي سيحتاجه في سبتمبر 1989. وكان بلخير كذلك جد نشيط قبل وأثناء وبعد مؤتمر جبهة التحرير الوطني. وقد شارك في تنظيم وتوجيه نتائج الانتخابات الرئاسية. خلال عام 1989. كان حمروش وبلخير، بالرغم من كونها متنافسين على السلطة، يتفقان في نقطتين بالخصوص، لكن كان لكل واحد دوافعه. ٭ عرقلة قاصدي مرباح والتحرش به في عمله الحكومي لكي يفشل في مهمته وقد نجحوا في ذلك. ٭ تشجيع إنشاء أكبر عدد ممكن من الأحزاب السياسية لتفريق المجتمع المدني حتى يبقوا هم سادة الوضع. لابد أن تحقيق هذين الهدفين سيسمح للتكتلين بالتقدم أكثر، وفق حساباتهم، للاستيلاء على الحكم، كل لحسابه الخاص. مقتنعين كلاهما بأن تمييع الحياة السياسية لن يسمح لأي حزب بالإحراز على الأغلبية المطلقة في المجلس الوطني المستقبلي في إطار نظام ديمقراطية الواجهة الذي يريدان إقامته(1). يجدر بنا التذكير بأن «الإصلاحات السياسية» التي شرع فيها بعد أحداث أكتوبر 1988 والتي أعدت في أروقة النظام من طرف أشخاص متمرسين في المكر والخداع، تم اعتمادها دون أية استشارة لا داخل جبهة التحرير الوطني حيث يدعي التكتلان انتماءهما إليها، ولا في أي مكان آخر، لم تكن هذه «الإصلاحات» إلا عبارة عن خرافة تهدف إلى إدامة حكم النظام الموجود. فهناك خلط بين الديمقراطية والتعددية الحزبية. وهكذا لاحظنا وبإيعاز من رئاسة الجمهورية، بروز أحزاب ببرامج تتصف بالعموميات، وعمليا متشابهة، باستثناء جبهة القوى الاشتراكية (الموجود منذ 1964 لكنه لم يعتمد من قبل) والجبهة الإسلامية للإنقاذ والحزب الشيوعي، حيث كان لكل حزب خياراته الإيديولوجية والسياسية الواضحة(1). المهــــم في الديمقـــراطية هو قبول المبدأ الأساسي في التداول على السلطة باحـــترام قـــرار الشعـــب المعـــبر عنـــه في انتخابات شفافة ونزيهة، بما أن الشعب هو مصــدر السيــــادة. لكــن هذا غير مقبول في الجزائر، وهو مايفرغ الديمقراطية من محتواها. وهكذا نخلص إلى التعددية الحزبية المهجنة والمشجعة من طرف النظام لا تهدف في نهاية الأمر إلا إلى تفكيك المجتمع وتمييع القوى السياسية الحية، وفق هدف خفي لادامة نظام تجاوزه الزمن وفقد المصدقاية. ففي هذه الظروف من الأزمة السياسية تم تعيين حمروش كوزير أول في سبتمبر 1989.
1) - تكتل حمروش أو الجناح «المدني» «لحزب فرنسا». إن تعيين حمروش على رأس الحكومة قد كرس الاقصاء النهائي من السباق نحو السلطة للهادي خذيري الذي كان يطلق إشاعات بين 1987و1988 حول حتمية تعيينه الأكيدة كوزير أول. وقد تمحور عمل حمروش خلال عهدته التي دامت 21 شهرا حول ثلاثة جوانب. ٭ مواصلة «الاصلاحات الاقتصادية». ٭ تسيير الملف الحساس للمديونية. ٭ غزو جبهة التحرير الوطني وجعلها كأداة لتعزيز سلطته. 1-1- قيل كلام كثير عن الاصلاحات بين 1989 و1991، لاسيما الاصلاحات الاقتصادية التي طالما سُفّهت من طرف الصحافة بأمر من حكومة سرايا كانت تسمى نفسها بالمناسبة «حكومة الاصلاحات» والتي لاتمثل لها الاصلاحات سوى وسيلة للمتاجرة في السياسة. تحدثنا في الفصل السابق عن الظروف التي أعدت ونفذت فيها الاصلاحات في المرحلة الأولى 1981-1985. وتم تدعيم هذه الاصلاحات في مرحلة ثانية بإجراءات أخرى تنظيمية وقضائية اتخذت في 1986 و1987. لقد تم الانطلاق في هذه الإصلاحات في 1981 في إطار خطة شـاملة ومتناسقة تهدف إلى تحسين ظروف التسيير الاقتصادي وتعزيز فعالية الأعوان الاقتصاديين وتوفير شروط الدفع القصوى للإنتاج والفائض الممكن استثماره. لقد استفاد تكتل حمروش من عهدة مرباح (نوفمبر 1988- سبتمبر 1989) في إعـــداد برنامــج حكومتــه ولخوض هجــومـــه بغية تعزيـز موقعه في السباق إلى هرم السلطة.
تنفيذ «الاصلاحات» إن برنامج حكومة السرايا، المسمى برنامج «الإصلاحات» المعروض أمام المجلــس الشعبي الوطني في سبتمبـــر 1989، كان يتمحـــور حـ ـول الأفكــار الأساسية التالية: 1- وضع حد للآليات الإدارية التي تشكل عائقا أمام «تطوير استراتيجيات الاستثمار والانتاج». 2- وضع حد لجهاز التنظيم المركزي الذي لايسمح بالتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر. 3- إستعادة الريع المحتكر من طرف المضاربين و«المهربين» وتوجيهه إلى أهداف إنتاجية. 4- وضع حد لتدخل الخزينة العامة في تمويل المشاريع الاستثمارية للمؤسسات، بما أن العلاقة بينها وبين البنوك أصبحت تحكمها العلاقات التجارية. 5- إنشاء دواويين تتكفل بتنظيم وضبط أسواق المواد المستوردة. 6- تطبيق القانون الجديد الخاص بالأسعار (وافق عليه المجلس الشعبي الوطني في عهد مرباح)، ومكافحة التضخم باللجوء إلى سياسة نقدية، والمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين. - وفي حقيقة الأمر، فإن حكومة حمروش قد ابتعدت كثيرا عن محتوى الاصلاح وعن برنامجها الذي صادف عليه المجلس الشعبي الوطني، حيث أن الأعمال التي انطلقت فيها في عدد كبير من الميادين كانت لها نتائج سلبية. - نتائج سياسة «الاصلاحات»: ماهي نتائـــــج سياســـة الإصلاحات هذه المطبقة بين 1989 و1991؟ لا أحد بوسعه نفي التسيير السيء «للاصلاحات» المطبقة، كما تشهد على ذلك المعطيات التالية: 1- عدم إقامة آليات بإمكانها أن تحل محل الآليات الإدارية. وقد نتج عن ذلك بقاء المؤسسات معلقة بين النظام القديم والنظام الجديد. فليست هناك استقلالية فعلية للمؤسسات جمود صناديق المساهمة(1). 2- مواصلة التدخل الإداري في تسيير شركات الدولة. وفي هذا الإطار فإن تداخل إجراء تموين شركات الدولة وتمويلها خارجيا كانت تؤدي إلى تأخر قروض الاستيراد التي قررتها الحكومة في ديسمبر 1989 لسنة 1990، والتي لم تمنح إلا بعد 8 أشهر فيما بعد. 3- التسريح الجماعي للإطارات، فقد كان يفترض أن هؤلاء الإطارات هم من يقع على عاتقهم الإشراف على الإصلاحات وعلى استقلالية المؤسسات العمومية، لكن أصبحوا أولى ضحايا هذه العملية. 4- يرجع تأزم الوضعية الاقتصادية والمالية للمؤسسات العمومية بالخصوص إلى عدم تجسيد الالتزامات التي تعهدت بها الحكومة لتحسين وضعيتهم المالية. فقرار الحكومة المعلن عنه بتحويل القروض قصيرة المدى الممنوحة للمؤسسات العمومــية إلى قــروض متوسطــة وطويلـــة المدى في سنـــة، لم يطبـق قط على أرض الواقع. 5- تهميش الفلاحة: إن تهميش الفلاحة يعد ثمرة أخرى لتطبيق «الإصلاحات»(راجع الأصل). فلا يوجد أي عامل من عوامل الانتاج بالنسبة للفلاحين، لم يكن هناك تمويل بسبب التطبيق الأعمى لمبدأ سوق التجارة، وبسبب نسبة الأرباح المرتفعة جدا، وبسبب السياسة النقدية المضيقة. 6- بالنسبة للتجارة الخارجية: تم تقنين «التهريب». فعوض «إستعادة الربح» المحتكر من طرف المضاربيين و«المهربين» وتوجيهه في نشاطات انتاجية، كما أعلن عنه في سبتمبر 1989 أمام المجلس الشعبي الوطني، فضلت الحكومة تقنين إقتصاد الاستهلاك مشجعة الاستيراد والاستهلاك على حساب الاستثمارات المنتجة، وذلك لأغراض انتخابية. 7- سياسة نقدية جامدة. لقد سبب التطبيق الحرفي والقاسي للإجراءات النقدية التي قررتها الحكومة خسائر كبيرة للإقتصاد الجزائري منها: ٭ حدوث دفع اقتصادي، عكس ماتم الإعلان عنه من قبل. ٭ انخفاض الإنتاج ونسبة النمو الاقتصادي. ٭ بطء، إن لم نقل توقف، وحدات إنتاجية عمومية وخاصة. ٭ نقص مواد البناء وعواقبه الوخيمة على وتيرة البناء. ٭ ارتفاع نسبة البطالة. ٭ الإرتفاع السريع لنسبة التضخم. 8- تفاقـــم التوتـــر الاجتمـــاعي. فبدأت الاضرابات تتزايد إلى حد لم يسبق له مثيــل، وامتد إلى كامل النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها الإدارة. فقد كــانت تلك المرة الأولى منــــذ الاستقـــلال يندلع فيها إضراب بمقر وزارة الشؤون الخارجية. وخلاصة القول أن التطبيق السيء أو عدم التطبيق «الاصلاحات» قد تترجم باتساع الاستياء الشعبي وتثبيط عزيمة الاطارات وضياع مصداقية «حكومة الاصلاحات»، ومازاد في ضياع هذه المصداقية هي الطريقة التي تم بها تسيير المديونية الخارجية.
1-2 تسيير المديونية الخارجية: إن المديونية الخارجية التي كانت تعتبر من المحرمات خلال سنوات 1970، والتي كان المواطنون يخشونها، أصبح ينظر إليها على أنها المسؤول الأول في الأزمة الجزائرية. يسود انطباع لدى الشعب الجزائري على أن السلطة قد أخفت عنه الحقيقة بخصوص هذه القضية وهو لم يكن يعلم بأن الجزائر قد تناولت جرعات من دواء صندوق النقد الدولي (ص.ن.د) في 1990 و1991. وبالفعل، فقد قامت حكومة حمروش بتطبيق برنامج (ص.ن.د) في إطار إتفاق تم التوقيع عليه مع البنك العالمي. هذه بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الجزائرية بعد مفاوضات مع البنك العالمي للحصول على قرض مهم، والتي تعادل برنامج التقويم الهيكلي المقترح من (ص. ن . د). كان تكتل حمروش يعتقد أنه سيستفيد وحده من انبعاث اقتصادي كان يعتبره بتهور في متناوله، وهو الذي طالما تجاهل بل وسفّه الإصلاحات الاقتصادية التي شرع فيها بين 1981 و1984، ليتبناها في آخر المطاف منذ 1989. لقد أثبتت الأحداث أن تحويل سياسة الإصلاحات لصالحه لم تعط النتائج المتوخاة والمعلن عنها بطريقة صاخبة، بل أن تطبيق هذه «الإصلاحات» قد ابتعد في الواقع عن الأهداف المسطرة. وهنا أيضا ندرك أن الفارق بين الخطابات والواقع جد كبير فيما يخص هذه القضية المركزية، بقي تكتل حمروش وفيا للنظام السابق الذي يدعون رغبتهم في تغييره، لاشيء تغير في الواقع، لا في الجوهر ولا في الطرق ولا في الخطة. سيحفظ التاريخ ويذكر رداءة هذه الحكومة وجهلها بتعقد المعطيات الاقتصادية والاجتماعية للجزائر، فضلا عن تجاهل ظاهرة عولمة الاقتصاد. على الصعيد العالمي، اكتفت هذه الحكومة بالسير وفق الأهداف الفرنسية في الجزائر، متجاهلة أبعاد العولمة ورهاناتها الحقيقية. إن غياب إرادة سياسية لبناء المغرب العربي الكبير من شأنها تنظيم الاندماج الاقتصادي الجهوي وغياب سياسة فعالة لتنويع التبادلات الخارجية للجزائر مع العالم العربي وبلدان أخرى من العالم الثالث للتقليص من العواقب السلبية للعولمة، تكفي لإظهار حدود هذه السياسة الموالية لفرنسا، وهي سياسة تعتبر أن العلاقات التفضيلية مع فرنسا وحدها قادرة على مساعدة الجزائر للخروج من أزمتها الاقتصادية على الصعيد الداخلي لم يمنعها من الالتفات إلى جبهة التحرير الوطني، من أجل غزوها واستعمالها لأغراض سياسوية للبقاء في الحكم، بل حتى تعزيز هذا الحكم في إطار الانتخابات التشريعية المبرمجة آنذاك في 27 جوان 1991، وليحتل موقعا يسمح له بخوض الانتخابات الرئاسية اللاحقة. 1-3- محاولة تدجين جبهة التحرير الوطني. من الواضح أن جبهة التحرير الوطني كانت تعرف بروز بعض بذور الأزمة الداخلية منذ وقت طويل لهذا وبتقييمنا الموضوعي لأهمية استعمال جبهة التحرير الوطني من طرف الحكومة بين 1989 و1991، يجدر بنا أن نذكّر بظروف الأزمة التي ضربت جبهة التحرير الوطني. - أزمة شرعية جبهة التحرير الوطني. كانت جبهة التحرير الوطني تتوفر دائما على مشروع اجتماعي صالح مستوحي من فلسفة نوفمبر 1954 ومن المثل والقيم الوطنية وأرضية مؤتمر الصومام (1956) إلى الميثاق الوطني (1967) مرورا بميثاق طرابلس وميثاق الجزائر (1964). إن مشكلة الجزائر لم تكن قط مشكلة مذهب، لكنها مشكلة تطبيق متصلة اتصالا وثيقا باختيار الرجال وبطرق العمل. فالانحراف الرئيسي يكمن في البون الصارخ بين الخطاب والتنفيذ، وبين النصوص الأساسية المصادق عليها وتطبيقها في الميدان. كانت جبهة التحرير الوطني في البداية بسلطة مهيبة اكتسبتها من الشرعية التاريخية ولاعتبارات متطلبات إعادة البناء الوطني لكن من أخطائها الجسيمة أنها لم تبد قط حاجتها للاعتراف بالشرعية الشعبية المتجددة باستمرار والضامنة الوحيدة لمصداقيتها ونجاح عملها. إن التصرف بنوع من الوكالة خارج كل شرعية شعبية يجب استشارتها باستمرار بسبل ديمقراطية، كان السبب الأول في أزمة الشرعية. كانت جبهة التحرير الوطني تعتبر رسميا الحزب الحاكم، لكنها كانت في الواقع حزبا للنظام. فقد استعملت في الواقع كمطية للحصول على الشرعية وكوسيلة لسلطة الدولة ومجرد جهاز يستعمل لنقل الحركة لسياسة تعدها وتطبقها سلطات البلاد. إن الأولوية التي أعطاها النظام منذ 1965 لبناء الدولة قد أثرت تأثيرا سلبيا على فكرة إنشاء حزب حقيقي تمتد جذوره في الجماهير. فقد كانت جبهة التحرير تعتبر رسميا الحزب الحاكم، لكنها كانت في الواقع حزبا للسلطة. إذا كانت القاعدة النضالية في أغلبيتها الساحقة سليمة دائما، فإن جبهة التحرير الوطني قد أُفرغت خلال أزماتها المتتالية من عدد كبير من عناصرها النزيهة والوطنية تاركة مجالا لاختراق الجهاز من طرف عناصر انتهازية تجذبها امتيازات المسؤولية. إن غياب الديمقراطية في التسيير الداخلي للحزب وغياب حوار حقيقي وثري بين القاعدة وهيئات الجهاز، ورفض كل نقد بنّاء، وعدم التكفل بانشغالات القاعدة، والاختيار غير الديمقراطي للمسؤولين على جميع المستويات وأيضا اختيار المترشحين للانتخابات البلدية والجهوية (الولائية) والتشريعية، كل هذا قد ساهم في جمود الحزب وفي القطيعة مع القاعدة، وهو ما سبّب بروز أزمة الثقة. ففي هـــذه الظــــروف كان حـمــــروش يحــاول تدجــــين الحــزب تحـت غطاء «تجديد ج. ت. و» «تجديد» جبهة التحرير الوطني. إن تأقلم جبهة التحرير الوطني مع الظروف السياسية الجديدة يفرض نفسه بالتأكيد، لاسيما بعد المصادقة على دستور 1989 الذي فتح المجال السياسي بصراحة للمنافسة والديمقراطية. لكن حتى يكتب النجاح لهذه العملية، يتعين على أية محاولة لتجديد جبهة التحرير الوطني أن تستجيب لبعض المقاييس، ولمتطلبات المستقبل وهو مالم يحدث بل أن «تجديد» الحزب كانت عبارة عن عملية سياسوية منحرفة لاستعمال جهاز جبهة التحرير الوطني كغطاء لسياسة الحكومة. لقد أريد بهذه العملية، ليس إبعاد عدد من المسؤولين الوطنيين النزهاء وغير الموالين عن الساحة السياسية فحسب، بل أكثر من ذلك تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية متناقضة مع مثل ومبادئ جبهة التحرير الوطني. لقد اعتمدت عملية «تجديد» الحزب على نوع من المواجهة التي أُريد إذكاؤها بين أجيال المناضلين، بين الشباب أنفسهم، وبين القدماء والجدد. إن هذه الخطة المنحرفة التي استعملها جناح حمروش تخفي في طياتها تناقضات غير طبيعية وخطيرة تهدد تماسك الحزب وفعاليته. فهي تمثل عامل تفرقة وغموض إضافي يفتح المجال للانتهازيين. إن الخطة السليمة هي الخطة التي بوسعها خلق ترابط وثيق بين الأجيال المناضلة، حيث يكون الخط الفاصل فيها على مستوى درجة الالتزام والوفاء ليس للأشخاص، لكن لمبادئ وتوجهات وأفكار جبهة التحرير، وكذلك على مستوى صدق وكفاءة وتجربة كل واحد ونزاهته. إذا كانت المشكلة تتمثل في جذب الشباب إلى جبهة التحرير الوطني، فكان يجب إذا طرح سياسته تتجاوب مع الشباب، ليس بواسطة شعارات التفرقة، بل بواسطة أعمال ميدانية تعكس التطلعات الأساسية للشعب الجزائري. وفي الوقت نفسه كانت لاعلانات والأخبار الصاخبة في وسائل الاعلام تقول بأن جبهة التحرير الوطني هي رائدة «الاصلاحات» السياسية والاقتصادية التي شرعت فيها الرئاسة وحكومة حمروش. لكن هذا غير صحيح فجبهة التحرير لم تبادر بالاصلاحات السياسية، بل أن هذه الاصلاحات لم تناقشها جبهة التحرير الوطني، كما بينما ذلك في الفصل السابق. فلم تعلم بها القاعدة النضالية ولاالقيادة السياسية، أي اللجنة المركزية، إلا عن طريق الصحافة مثلها مثل المواطنين. لقد تم اعداد الاصلاحات السياسية دون استشارة مسبقة لجبهة التحرير الوطني على أي مستوى كان. أما فيما يخص ملف «الإصلاحات الاقتصادية»، فقد عرضته الحكومة على اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني للمصادقة خلال دورتها في 1 مارس 1990. وبما أن الأمر كان يتعلق بوثيقة جزئية لا يمكن اعتبارها كوثيقة للإعلام، لا أكثر. وعلى العكس من ذلك، ناقشت جبهة التحرير التحرير الوطني وتبنت إجراءات ملموسة تهدف إلى تحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية التي لم تحترمها الحكومة في عملها الميداني. إن محاولة تدجين جبهة التحرير الوطني عن طريق «التجديد» كان مآلها الفشل حتى وإن بقيت الحكومة تتوفر على دعم الانتهازيين في اللجنة المركزية. كان ردي على مناصري جناح حمروش الذين كانوا يدعون حينها بعض المسؤولين إلى مغادرة جبهة التحرير الوطني وإنشاء أحزاب أخرى بأن» «الذين يؤمنون بالمبادئ والخيارات الأساسية لجبهة التحرير الوطني والذين يناضلون من أجل تجسيدها لايمكنهم مغادرتها. وعلى عكس ذلك، فعلى المنحرفين الذين حادت أعمالهم الاقتصادية والاجتماعية بصفة معتبرة عن النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، مغادرتها وإنشاء أحزابهم الخاصة. فلا يجب قلب القيم ولا الأدوار. لقد حان الوقت للخروج من «المتاجرة» السياسية(1). خلال هذه الفترة التي تميزت بالاعتراف بالتعددية الحزبية، وحرية التعبير والمنافسة السياسية، يجب أن تتطابق سياسته الحكومة مع سياسته جبهة التحرير الوطني التي يدعون الانتماء إليها، وليس العكس. إن وقت استعمال جهاز جبهة التحرير الوطني قدولى، حيث كان كل شىء يعمل باسمها مع تجاهل أو احتقار مثلها ومبادئها. لقد استعملـــت الحكومـــة كل الطـــرق الممكنة لربح الانتخابات البلدية والولائيـــة في جـــــوان 1990، بإرســـال وزراء وأعضـــاء من اللجنـــة المركزيــة لجبهة التحرير الوطني في الحملات الانتخابية لمساندة مرشحي جبهة التحرير الوطنية في أول انتخابات تعددية في الجزائر منذ 1962. لكن هزيمة جبهة التحرير الوطني في الانتخابات البلدية والولائية في جوان 1990 أظهرت إذا أردنا، حدود هذه الحكومة(2). في هــــذه اللحظـــة زادت شـــدة هجومـــات بلخـيـر من أجل إبعاد حمروش ووضع بيادقة.
2- تكتل بلخير أو الجناح العسكري «لحزب فرنسا». تذكيــر: يجـــدر بنـــا العــودة قليلا إلى الوراء لنحدد بدقة ظروف استخلاف حمروش التي كرست هيمنة تكتل بلخير الذي لم يعد له بعد ذلك أي منافس في هرم مؤسسات البلاد. لم ينتظر العربي بلخير المدعم من طرف بعض الضباط السامين من قدماء الجيش الفرنسي الذين يمثلون تكتلا متلاحما جدا، عام 1989 لتعزيز مواقعه في الواقع، كان عمله في التشويش وفي تلغيم الوضع قد بدأ منذ 1980 عندما تم تعيينه كأمين عام لرئاسة الجمهورية. فبعد أن عزز الثقة التي وضعها فيه الرئيس الشاذلي خلال عهدته الأولى، انتقل إلى السرعة القصوى لتقوية مركز فريقه داخل مؤسسات الدولة، لاسيما ابتداءا من جانفي 1984. وقد امتدت أعماله فعليا إلى جميع المجالات، سواء الداخلية أو الخارجية.
1- على الصعيد الداخلي. على الصعيد الداخلي، كان بلخير يظهر دائما صفة المعاون «الوفي المطيع والمنضبط» لرئيس الجمهورية، وهو ماجعل هذا الأخير يشركه في جميع القرارات الهامة للدولة. فأصبح الرجل الذي لا يمكن تجاوزه فيما يتعلق بالتعيين في الوظائف العليا، بما فيها تعيين أعضاء الحكومة. ومن جهة أخرى، وبما أن رئيس الدول كان كذلك الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، فقد كان بلخير يلعب مع ذلك (بالموازاة مع مصالح الأمن) دورا حاسما في اختيار أعضاء اللجنة المركزية، المعروضين على المصادقة من طرف مؤتمر جبهة التحرير الوطني، لاسيما أثناء المؤتمر الخامس (ديسمبر 1983) والمؤتمر السادس (نوفمبر 1988)، وكان يتدخل كذلك في تسيير جهاز جبهة التحرير الوطني. ولما كان رئيس الدولة في نفس الوقت وزيرا للدفاع، فقد كان بلخير مكلفا بمتابعة تسيير الجيش ومصالح الأمن المدنية والعسكرية. وقد ازداد تقلدا بعد إبعاد اللواء مصطفى بلوصيف. وقد لعب بلخير بصفته أمينا عاما للرئاسة ثم مديرا للديوان الرئاسي، دورا نشطا في تعيين الولاة ورؤساء الدوائر والمديرين العامين للبنوك والمؤسسات العمومية والسفراء ( لدى البلدان التي تعتبر استراتيجية)، وقد استفاد من ذلك بوضع عناصر موالين له ولكتلته بتلك المناصب متجاوزا الوزراء المعنيين. قام في 1984 بإنشاء جهاز مراقبة برئاسة الجمهورية أسند إلى قاض سابق قريب منه. لقد قُلِّص جهاز المفتشية العامة هذا إلى مجلس المحاسبة الذي أنشئ عام 1980 ووضع تحت وصاية الرئاسة. أصبحت هاتان الهيئتان بسرعة وسيلة رهيبة لتصفية الحسابات من أجل القضاء على مسؤولين في جميع الميادين (وزراء، أعضاء في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، ولاة، مديرون عامون للبنوك ومؤسسات الدولة، سفراء وغيرهم) ليستبدل بهم عناصر موالية له.
2- على الصعيد الخارجي. على الصعيد الخارجي، نجح بلخير الذي أولاه رئيس الدولة ثقته الكاملة، في الوقوف في صدارة العلاقات الخارجية لاسيما مع فرنسا والعربية السعودية والمغرب على حسابات وزير الشؤون الخارجية. إن الوزير الأول فضلا عن كل الوزراء المعنيين بملفات التعاون هذه، يعلمون ذلك، فعلاقاته الرسمية وغير الرسمية كانت خاصة وجد مكثفة. ومع مرور الوقت، أصبح يمثل الممر الإجباري للعلاقات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والخفية(1) مع فرنسا. وكانت علاقاته مع مختلف الدوائر الفرنسية اعتيادية جدا حسب المعلومات التي بحوزتي. وكان محاوروه المفضلون موجودين في قصر الإليزي (رئاسة الجمهورية الفرنسية) وفي ساحة «بوفو» (وزارة الداخلية) حيث كانت له علاقات متواصلة. هناك أحداث ومؤشرات عديدة تؤكد علاقات بلخير المتعددة الأشكال مع مختلف الأوساط الفرنسية لم تكن متكافئة، وكانت تخدم المصالح الفرنسية في الجزائر ويبدو بالفعل أن الجانب الفرنسي كان سيتعمل عدة طرق لتغيير وجهة عمل الجزائر في مجالات مختلفة وهذا انطلاقا من مداعبة عزة نفس وكبرياء القادة الجزائريين إلى تحريك الأحداث من أجل توجيه القادة الجزائريين في الاتجاه الذي تريده الأوساط الفرنسية، ليس على الصعيد الخارجي فحسب، لكن على الصعيد الداخلي كذلك. إن اتساع مجال دور بلخير في دواليب الدولة والنجاحات المسجلة لصالح جناحه على مدى الأعوام قد زادت من حدة طموحه. وهكذا انتقل بعد أحداث أكتوبر 1988 إلى الهجوم.
هجوم جناح بلخير عرف العمل الهجومي لهذا الجناح بعض الاضطرابات، لكن لم يتم ذلك بتعيين حكومة حمروش في سبتمبر 1989 وفي تلك الأثناء، انكب هذا التكتل على إحداث التغييرات داخل الجيش. إن إبعاد اللواء مصطفى بلوصيف في نوفمبر 1986 قد دشن، في الواقع مرحلة اتسمت بالهيمنة التدريجية على الجيش الوطني الشعبي، على أعلى مستوى، من طرف «الفارين» من الجيش الفرنسي، وهو ما نجم عنه اختلال في التوازن الهش بين هؤلاء والجنرالات الوطنيين من قدماء المجاهدين. وقد عمل تعيين الجنرال خالد نزار على رأس القيادة العامة للأركان في 1989 خلفًا للواء عبد الله بلهوشات، على الإسراع في هذه العملية. 1 - التغييرات في قمة المؤسسة العسكرية: أحدثت سنة 1989 منعرجا في دور الجيش الوطني الشعبي على الصعيد السياسي. وقد أثبتت الوقائع والأحداث هيمنة الجيش على السلطة السياسية. فجيش التحرير الوطني الذي أصبح الجيش الوطني الشعبي هو الذي نصّب بن بلة على رأس الدولة الفتية في 1962، وهي كذلك التي أزاحته في 1965. بين 1965 و1978 كان بومدين وحده يهيمن على الساحة السياسية ممثلا في نفس الوقت الجيش والدولة وجبهة التحرير الوطني. خلال هذه الفترة لم يتدخل الجيش كمؤسسة في تسيير الشؤون السياسية للبلاد، فكانت مهام الجيش الوطني الشعبي التي يحددها الدستور تتمثل في: - «الدفاع عن الوحدة الترابية وحماية الحدود. - الدفاع عن الثورة الاشتراكية. - المساهمة في تنمية البلاد وبناء مجتمع جديد»(1). لكن الحضور العسكري في دواليب الدولة كان في إطار مؤسساتي، وكانت السياسة الداخلية والخارجية من صلاحيات الرئيس بومدين وحده. وبين 1979 و1988، فقد هيمن الجيش ومصالح الأمن على الدولة وعلى جبهة التحرير الوطني بمباركة الرئيس الشاذلي بطريقة مؤسساتية كذلك. وقد زاد دور العسكريين رمصالح الأمن في تسيير أجهزة الدولة وجبهة التحرير الوطني بصفة معتبرة خلال هذه الفترة. تبع المصادقة على الدستور الجديد بتاريخ 23/02/1989 انسحاب العسكريين في 04/03/1989 من اللجنة المركزية وقيادة جبهة التحرير الوطني. وتم تفسير هذا الانسحاب سياسيا باحترام الجيش للتعددية الحزبية ومسار الدمقرطة. لكن الأحداث ستبين بأن ذلك لم يكن لا حياديًا ولا بريئًا، بل أنه كرّس في الحقيقة القطيعة مع المرحلة السابقة، حيث كان الجيش يحترم الخيارات السياسية والإيديولوجية للشعب والدفاع عنها، فمنذ تلك اللحظة، بدأ الجنرالات «الفارين» من الجيش الفرنسي والمستعمرين فكريًا، في اتخاذ وجهة سياسية تتسم بالعداء للإسلام وحقدهم على العربية بوقوفهم موقفًا مناقضًا ومعاديا للثوابت الوطنية ومكونات الشخصية الجزائرية التي أكدتها كل دساتير الجزائر منذ 1963. ومن أجل الحصول على الحرية في العمل، قام هؤلاء الجنرالات، الذين يمثلون تيارًا سياسيا للأقلية، بتدعيم مواقعهم داخل الجيش بين 1988 و1999، مقنعين الرئيس الشاذلي بالقيام ببعض التعيينات وإحالات على التقاعد التي ذهب ضحية لها جنرالات لا ينتمون إلى تيارهم، أو بقبول استقالة بعض الجنرالات الوطنيين. وهكذا تم في 1988 إجراء التغييرات التالية: - الجنرال مجذوب لكحل عياط، أحيل على التقاعد. - الجنرال محمد علاڤ، أحيل على التقاعد. - الجنرال علي بوحجة، أحيل على التقاعد. - الجنرال الهاشمي هجرس، أحيل على التقاعد وتم تعيينه بأمانة جبهة التحرير الوطني. - الجنرال حسين بن معلم، تم تعيينه برئاسة الجمهورية. - الجنرال العربي سي لحسن، أحيل على التقاعد وعُيّن سفيرًا. - الجنرال زين العابدين حشيشي، أحيل على التقاعد وعيّن سفيرًا. هذه الحركة التي لم تمس إلا قدماء المجاهدين، تبعها في 1989 رحيل جنرالات وطنيين وهم: - اللواء عبد الله بلهوشات، قائد الأركان العامة، أحيل على التقاعد. - الجنرال كمال عبد الرحيم، نائب قائد الأركان العامة، استقال على إثر تعيين الجنرال خالد نزار في منصب قائد الأركان العامة، والذي لا يشاطره التصور حول الدفاع الوطني وتسيير الجيش، وقد قُبلت استقالته وطالب بحقوقه في التقاعد. - الجنـــرال اليامــين زروال، نائب قائد الأركــان العامـــة، استقـال بعد خلاف مع الجنــرال خالـد نـزار حــول إعادة تنظيم الجيش، تمت إحالته على التقاعد وتعيينه كسفير. - الجنـــرال عــبد المجيد الشريــف، أحيـــل على التقــاعد من تدبير الجنرال خالد نزار بحضور العقيد حرطاني، الذي كان حينها مدير مستشفى عين النعجة، بالجزائر العاصمة. - في 1990، استقال الجنرال محمد عطايلية على إثر تعليمات مثبطة أعطاها الجنرال خالد نزار (الذي تم تعيينه حديثًا كوزير للدفاع) إلى قادة النواحي العسكرية لمنعه من القيام بمهمته كمفتش عام للقوات المسلحة بصفة جيّدة(1).
وبالموازاة مع ذلك، تم تعين «فارين» من الجيش الفرنسي في المناصب التالية: - الجنرال خالد نزار، عُيّن قائدًا عامًا للأركان في 1989، ثم فُيّن وزيرًا للدفاع في 1990. - الجنـرال عبد المالـــك ڤنايزيــــة، عُيّن قائـــدا عاما للأركـــــان، خلـفا للجنرال خالد نزار. - الجنرال محمد تواتي (القريب من حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية)، عُيّن كمستشار لوزير الدفاع في 1990، وهو المنصب الذي مازال يشغله في سنة 2000. - الجنرال محمد العماري، عرف صعودًا سريعًا ابتداءً من 1989، وهو التاريخ الذي تمت فيه إحالة الجنرالات الوطنيين المذكورين سابقًا على التقاعد، وقد كان جد نشيط في قمع مظاهرات أكتوبر 1988. وفي 1992، أنشأ الفرق الخاصة المكلفة بمحاربة الإسلاميين المسلحين، وهو معروف بقمعه الصارخ للحركة الإسلامية. وتم تعيينه في 1993 قائدا عاما للأركان، وهو المنصب الذي مايزال يشغله إلى غاية اليوم (أثناء كتابة هذه السطور). إن هـــذه التغييــرات في قمة المؤســسة العسكرية، والتي دبّر لها أساسًا العربي بلخيــر وخالـــد نزار، كانت تمثل مرحلة حساسة في اتجاه الانقلاب، وتبعتها تغييرات أخرى سنتحدث عنها لاحقًا. كان جنرالات «حزب فرنسا» الذين يمثلون تيار أقلية صغيرة جدًا، يهدف إلى الهيمنة على الجيش لوحدهم وإلى استعماله كأداة لسياسة قمعية وبوليسية، بعيدًا عن الثوابت الوطنية والمصلحة العليا للبلاد. لكن النجاح السياسي غير المتوقع للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الميدان زاد من حرارة نشاط هذا التكتل في تعجيل الأمور وفي الانتقال إلى الهجوم. ولما كان جناح بلخير من مناصري سياسة القوة، فقد اتهموا حمروش بالتساهل والتراخي أمام تنامي «الخطر الإسلامي» هناك بعض الأمثلة تسمح بتوضيح طبيعة ذلك الهجوم من أجل الاستيلاء على السلطة، مع استعمال كل الطرق لمنع الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الوصول إلى الحكم ديموقراطيا.
1- الانتخابات البلدية. في اليوم الموالي للانتخابات البلدية في جوان 1990، تفاجأ الجنرالات «الفارون» من الجيش الفرنسي بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي حصدت 55% من بلديات الوطن. في تلك الأثناء انعقد اجتماع حول بلخير وضم الجنرال خالد نزار (قائد الأركان) والجنرال مصطفى شلوفي (الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني) والجنرال عباس غزيل (قائد الدرك الوطني) والجنرال محمد مدين المدعو توفيق(1).(مسؤول الأمن العسكري برئاسة الجمهورية) دون علم رئيس الدولة. وقد توصلوا في مناقشتهم حول الفوز غير المنتظر للجبهة الإسلامية للإنقاذ وحول مستقبل البلاد إلى تبني خطة عمل تهدف إلى منع الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخاب. وقد اتفقوا على محاولة إقناع الرئيس الشاذلي بالغاء تنظيم الانتخابات التشريعية المقررة في الفصل الأول من 1991، بكل بساطة أو على الأقل تأجيل تاريخها لربح الوقت. وفي الأخير اتفقوا على أنه إذا تمت الانتخابات التشريعية رغم كل شيء، فإنهم يفضلون «تحويل الجزائر إلى بركة من الدم على قبول مجلس وطني تسيطر عليه الجبهة الإسلامية للإنقاذ.»(1). وهكذا بدأ الإعداد للانقلاب. لقد نجحـــوا بالفعــــل في تأجيـــل موعد الانتخابـــات لثـلاث مرات، رغم التعـــهد العلني لرئيـس الدولة بتواريخ محددة لكن لم ينجحوا في تأجيل تاريخ 26 ديسمبــر 1991 وهو التاريـــخ الذي أجريــت فيه الانتخــابـات في الأخير. والبقية معروفة. 2- اجراءات تهدف إلى عرقلة سير البلديات التي تديرها الجبهة الاسلامية للانقاذ نجح بلخير وشركاؤه في إقناع حمروش باتخاذ إجراءات ذات طابع إداري تهدف إلى عرقلة نشاط منتخبي الجبهة الاسلامية للانقاذ على مستوى البلديات. وتم في هذا الإطار إقرار إجراءات تهدف إلى تقليص صلاحيات رؤساء البلديات التابعين للجبهة الإسلامية للإنقاذ لصالح الأمناء العامين للبلديات الذين يعملون قانونيا تحت سلطة رؤساء تلك البلديات أنفسهم، ولصالح رؤساء الدوائر الذين تقع تلك الولايات تحت وصاية دائرتهم الإدارية، وهكذا وجد منتخبو الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنفسهم محصورين بين أعوان إداريين في البلدية ورئيس الدائرة الذي تخضع تلك البلديات إلى وصايته. ومـــن أجـل تجميـد نشـاط الجبهة الإسلامية للإنقاذ تجميدا كاملا على المستــوى المحلي، تم من جــهة ثانية اتخاذ إجــراءات أخرى كالتخفيض من الميزانية أو ببساطة توقيف القروض الممنوحة للبلديات التي تشرف عليها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. 3- المضاعفة من استفزاز الجبهة الاسلامية للانقاذ. من بين الاستفزازات المتعددة التي كان يقوم بها بلخير وجنرالاته لإرهاب الإسلاميين وإذلالهم، بغية إضعاف الجبهة الإسلامية للإنقاذ سياسيا، نستطيع ذكر بعض الأمثلة الهامة: أولا، تم تسليط موجة من القمع على قادة ومناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ لاسيما بمناسبة الإضراب الذي قرره هذا الحزب في جوان 1991. وقد قامت السلطات العسكرية قبل الفجر بإرسال فرق إلى ساحة الشهداء بالجزائر العاصمة لإطلاق النار على متظاهرين هادئين كانوا قد نظموا تجمعا سلميا بتلك الساحة في اليوم السابق. وتم قتل عدد كبير من المتظاهرين وجرح أخرين جروحا بليغة وتم حل النقابة التي أنشأها الإسلاميون، والقريبة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ وطرد آلاف المسؤولين والمناضلين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ بسبب الإضراب وتم اعتقال عدد كبير منهم بقرارات إدارية. وقد انتهت موجة القمع هذه باعتقال عباسي مدني وعلي بلحاج في جوان 1991، وهما على التوالي رئيس ونائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وذلك بعد رحلة سرية يكون قد قام بها بلخير إلى باريس. ومن جهة أخرى، تم تخصيص إشهار كبير لتعليمة من وزارة الدفاع تفرض تقييدات صارمة على الموظفين المدنيين في مختلف الهيئات الخاضعة لوصاية هذه الوزارة، بما فيها المستشفيات، وذلك بمنع الرجال من إطلاق اللحية، والنساء من ارتداء الحجاب تحت طائلة الطرد. وأخيرا، شرع في سلسلة من التفتيشات والمداهمات للمساجد من طرف الجيش(1). وقد شوهد جنود يدوسون بأقدامهم على القرآن. خلال هذا النوع من المداهمات. فهذا النوع من السلوكات الحقيرة والمقيتة كان غريبا تماما عن أخلاق الجزائريين وهو شيء لم يقع قط من قبل! 4 - استقالة حكومة حمروش: في هذا المناخ من الرعب والخنق، وانتهاك للدستور والقوانين وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، نجح خالد نزار الذي كان حينها وزيرا للدفاع، وبلخير في حمل الرئيس الشاذلي على إعلان حالة الطوارئ. وقد نجحوا كذلك في حمل رئيس الدولة على إقالة حكومة حمروش، متهمين إياه بنقص الصرامة وبالتساهل. وقد تم الإعلان عن هذه الاستقالة في 4 جوان 1991، بينما كان الشاذلي يصرح علانية مساندته لحمروش في 2 جوان. وقد نجحوا كذلك في الحصول على تأجيل الانتخابات التشريعية للمرة الثالثة، والتي كانت مقررة في 27 جوان 1991.
2 - انقلاب جانفي 1992: اشارة انطلاق مرحلة طويلة من العنف. عندما انتزعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ 188 مقعدا من بين 220 في الدور الأول من الانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر 1991، وبينما كانت تحتل مكانا مريحا لخوض الدور الثاني، قام الجيش بالاستحواذ على السلطة وذلك بتنحية الرئيس الشاذلي بن جديد وإلغاء الانتخابات بكل بساطة. وقد برر الجنرالات انقلابهم بالدوافع التالية: 1) إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تريد أخذ السلطة بالقوة (هراء) 2) إذا وصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الحكم، فإنها لن تحترم الدستور ولا القانون، وستحطم البلاد سياسيا واقتصاديا. 3) ضرورة استباب الأمن واستعادة هيبة الدولة. 4) ضرورة تنظيم الانطلاق الاقتصادي ومحاربة البطالة فما الذي حدث بالفعل بعد الانقلاب؟ إنهم الجنرالات الانقلابيون الذين لايتمتعون لا بالشرعية الثورية ولا بالشرعية الشعبية الدستورية، هم الذين استولوا على الحكم بالقوة، مستعملين القمع والإرهاب في جو غاب عنه العقاب وبالسطو على الدستور وعلى القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية، لاسيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي كانت الجزائر قد وقعت عليها. انتشــر الخـــوف على مـــر السنــــوات في جمــيع أنحـــاء البـــلاد حيــث غــابت هيبة الدولة. تدهورت الوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدرجة مأساوية خلال عشرية 1990، كما سنرى ذلك لاحقا بالتفصيل. كان الجنرالات الانقلابيون يعتمدون، في الداخل على شيئين للنجاح في عمليتهم: من ناحية، على القوة من أجل قمع الأشخاص الذين يختلفون معهم في التفكير واستعمال قوة السلاح لمحاربة الأفكار والقناعات السياسية للمواطنين، ومن ناحية ثانية على الوعد ببيع 25% من حقول البترول بحاسي مسعود، الذي قدمه غزالي (الذي أبقوا عليه كوزير أول بعد الانقلاب) لامتصاص المديونية الخارجية ولبعث مشروع كبير للأشغال العمومية بغية امتصاص البطالة. كانوا يعتقدون أنهم بهذه الطريقة يستطيعون قلب الدعم الشعبي لصالحهم خلال عامين (وهو الأجل الذي حددوه لأنفسهم ويوافق نهاية عهده الرئيس الشاذلي) وبالتالي كسب الشرعية لتبرير بقائهم في الحكم. - أما على الصعيد الخارجي، فقد كانت الطغمة العسكرية تعتمد على الدعم السياسي والديبلوماسي والمالي والعسكري الفرنسي. - لنرى الأن بالتفصيل هذه النقاط الثلاثة. 1- تورط فرنسا في الأزمة الجزائرية: يجب التذكير في البداية بأن فرانسوا ميتران، الذي كان حينها رئيسا للجمهورية، قد كان وزيرا للداخلية في نوفمبر 1954، عندما صرح بأن المفاوضة الوحيدة الممكنة مع جبهة التحرير الوطني هي «الحرب بكل الوسائل»، وبأن شارل باسكوا، وهو وزير الداخلية بين 1993 و1995، والمعروف بمساندته الكاملة للانقلابيين الجزائريين، قد تورط في حربنا التحريرية عندما كان مظليا في الجيش الفرنسي. أما إيدوار بالادور، الذي كان وزيرا أولا فقد أسند «ملف الجزائر» لباسكوا وليس لوزير الخارجية، معتبرا الأزمة الجزائرية شأنا داخليا لفرنسا. ولهذا الغرض. وظّف باسكوا كمستشار خاص بالجزائر، جان كلود مارشياني، وهو مظلي قديم كان قد حارب ضد تحرر الجزائر ويساعده في هذه المهمة مجموعة من الأقدام السوداء، كان بعضهم أعضاء في المنظمة المسلحة السرية، المعروفة بجرائمها ضد جزائريين أبرياء وبنشاطاتها التخريبية قبيل استقلال الجزائر. لقد استغلت هذه المجموعة من المسؤولين الفرنسيين الذين يتمتعون بحضور قوي في الإدارة الفرنسية، لاسيما في مصالح الأمن، الأزمة الجزائرية لأخذ ثأرهم والقيام، عن طريق جنرالات جزائريين من قدماء عناصر الجيش الفرنسي، يمهمتهم القذرة التي لم يستطيعوا إكمالها بأنفسهم خلال حربنا الوطنية التحريرية(1). هناك بعض الأمثلة تثبت تورط فرنسا في الأزمة الجزائرية. ٭ عندنا الدليل على مكالمة هاتفية جرت في الليلة التي سبقت انقلاب جانفي 1992، بين الرئيس ميتران والجنرال خالد نزار، الذي كان حينها وزيرا للدفاع، اقترح خلالها الرئيس الفرنسي على نزار ضمان حياة الرئيس الشاذلي، وعبر له عن تعاطفه واعدا إياه بالمساعدة(2). ٭ منذ الانقلاب، كانت فرنسا التي ما انفكت تنادي بالديمقراطية في إفريقيا منذ القمة الفرنسية- الإفريقية في لابول، تمنح دعمها للنظام العسكري الجزائري، طبعــا في سريــة لكن باستمـرار، في المجـالات السياسـية والديبلوماسيــة والعسكرية والاقتصادية. لم يوافق صندوق النقد الدولي على إعادة جدولة ديون الجزائر الخارجية في 1994 إلا بدعم من فرنسا التي أخذت على عاتقها مهمة التغلب على تردد معارضة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى على الخصوص. ٭ كان الإعلام الفرنسي بين 1992 و1999 يساند صراحة النظام الديكتاتوري الجزائري. فوحدهم «الاستئصاليون» الجزائريون وممثلوهم الفرنسيون، عمالقة التعتيم الإعلامي، كانوا يُدعون للتعبير عن الأزمة الجزائرية بالسماح لهم بمخاطبة الرأي العام الفرنسي والأوروبي والعالمي، دون إعطاء أي فرصة للمصالحين للتعبير عن وجهة نظرهم وهم الذين يمثلون الأغلبية الساحقة للشعب الجزائري. ٭ عبرت فرنسا صراحة عن رفضها لإنشاء لجنة دولية للتحقيق في المجازر الجماعية التي قامت بها فرق خاصة للقمع وميلشيات أنشأها النظام في المدية وحي الرايس وبن طلحة وبني مسوس وغليزان وغيرهم في 1997 و1998 وحول انتهاكات حقوق الانسان كالتعذيب والاختطاف والاغتيالات دون محاكمة وغيرها. وكانت فرنسا من جهة أخرى تقوم بتكوين لوبي في جنيف لمنع إصدار لائحة تدين انتهاكات حقوق الانسان من طرف الحكومة الجزائرية، خلال أشغال لجنة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الانسان أثناء دورتها في مارس-أفريل 1998 ودورة جويلية 1998(1). أما اليوم، فبوسع كل واحد ملاحظة أن الجزائر قد فقدت مجدها الذي كانت قد احرزته خلال 132 عاما من المقاومة، منها 60 عاما من الحرب ضد الاستعمار الفرنسي (بين 1830 و1881، ثم بين 1954 و1962). من الواضح أن فرنسا هي في طريقها إلى غزو الجزائر مجددا بواسطة طرق أخرى غير تلك التي استعملها الاستعمار في القرن الماضي. إن فرنسا توفر بصفة مكثفة مساعدتها العسكرية، وذلك ببيعها أسلحة ومعدات عسكرية متطورة للنظام العسكري الجزائري لتقوية تيار الاقصائيين ومناهضي الديمقراطية في الجزائر. فهي تحاول عن طريق الجنرالات الاقصائيين، تغذية سياسة معلنة معادية للحضارة العربية الاسلامية التي ينتمي إليها الشعب في غالبيته العظمى، وذلك من أجل اقتياده إلى حضيرة الفرنكفونية(2). لقد أصبحت الفرنكفونية إيديولوجية تستعمل لإعادة غزو المستعمرات الضائعة ثقافيا واقتصاديا. لكن التاريخ يذكر لنا أن الاستعمار الفرنسي قد تميز في الجزائر بالاضطهاد العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي الأعمى خلال 132 عاما. وكان هذه الاضطهاد المتعدد الأشكال دمويا شرسا همجيا تلته حرب وحشية ضد الشعب الجزائري بين 1954 و1962. فعوض أن تقوم فرنسا، بتقديم تعويضات للجزائر عن جرائمها التي لا حصر لها ولا عد (ملايين الجزائريين قتلوا خلال القرن التاسع عشر ومليون ونصف المليون من الشهداء في الفترة من 1954 و 1962 فقط)، وعما لحق الجزائريين من نفي وإبعاد، وعما لحق الجزائر من أنواع التخريب المادي طوال 132 عاما من الاحتلال، رجحت هذه الفترة من الذاكرة المؤلمة وخلفياتها لصالحها لتمنح نفسها حق الوصاية على الجزائر. وإن كان الفرنسيون يجرؤون على القيام بذلك في وضح النهار منذ 1992، فهذا لأنهم استفادوا من تواطؤ جزائريين، ليسوا سوى قدماء عناصر الجيش الفرنسي الذين يتحكمون وحدهم في الجيش الجزائري، لاسيما منذ انقلاب 1992، وهذا للمرة الأولى منذ استقلال الجزائر. الفرق الوحيد بين هؤلاء الجنرالات وموبوتو، هو أن بلجيكا نجحت في ترقية موبوتو من رتبة رقيب أول، وهي رتبته عند استقلال الكونغو، إلى رتبة جنرال خلال عامين، ليصبح قائدا للأركان في العام الثالث ورئيسا للدولة في العام الرابع، فحكم كديكتاتور وعمل على تخريب بلاده. بالنسبة لفرنسا، فإن ترقية ضباط صف وملازمين كانوا قد عملوا ضمن صفوف الجيش الفرنسي قبل الاستقلال، إلى رتبة جنرال في الجيش الجزائري قد تطلبت 30 عاما. فمنذ 1989 وللمرة الأولى منذ استقلال الجزائر، نجد أن الجيش الوطني الشعبي يقوده على أعلى مستوى عناصر من قدماء الجيش الفرنسي. في 1990، كان وزير الدفاع وقائد الأركان العامة والأمين العام لوزارة الدفاع ثلاثتهم من «الفارين» من الجيش الفرنسي، يساندهم جنرالات آخرون من التوجه الفرنسي يشغلون مناصب حساسة كمسؤول الأمن العسكري ونائبه، ونائب قائد الأركان المكلف بالقوات البرية فضلا عن مستشار وزير الدفاع. كان هذان الأخيران قد «هربا»من الجيش الفرنسي في 1961، بضعة أشهر فقط عن الاستقلال!! لهذا نجد أن النظام العسكري الجزائري الذي تدعمه فرنسا في سرية، يعارض الديمقراطية والشفافية وسيادة الشعب وتطبيق الدستور (الذي يجذر بوضوح دور الجيش) من أجل بقائه وديمومة المصالح الثقافية والاقتصادية لفرنسا بالجزائر. إن لدى غالبية الجزائريين انطباعا بأن مايحدث في الجزائر منذ انقلاب 1992 هو استمرار لحرب التحرير الوطني. الكل في الجزائر يعلم أن الجنرالات الاستئصاليين يمثلون امتدادا لفرنسا بالجزائر. فحلم فرنسا على الصعيد السياسي والثقافي هو اقتياد الجزائر إلى الأبد تحت هيمنتها مستعملة غطاء انضمامها إلى نادي الفرنكوفونية. وبعبارة أخرى، فإن فرنسا تحاول تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالحها مع الجزائر حتى تصبح هذه العلاقات لا رجعة عنها تحت غطاء الثقافة الفرنسية. إن الاحتجاجات التي عرفتها فرنسا والأوساط الاستئصالية الجزائرية قد رافقتها هجومات منظمة ضد اللغة العربية طوال شهور، وهذا حتى قبل دخول قانون تعميم استعمال اللغة العربية حيز التنفيذ المحدد بتاريخ 5 جويلية 1998، لها أكثر من دلالة. إن اغتيال المغني القبائلي معطوب الوناس الذي دبره بعض الجنرالات من بينهم محمد تواتي ومحمد مدين واسماعيل العماري والذي ألصق بالإسلاميين، بأتى في تلك اللحظة بالذات لاستفزاز بلاد القبائل ولاستعمال وتوجيه غضبها ضد قانون اللغة العربية(1). إن المناورة الدنيئة التي دبرتها هكذا الأوساط الفرنسية فضلا عن الهجومات الوقحة المنظمة من طرف الصحافة ضد الجنرال بتشين، الذي كان وزيرا مستشارا لرئاسة الجمهورية، قد نجحت في حمل الرئيس زروال وحكومته على تأجيل تطبيق قانون التعريب إلى أجل غير مسمى وعلى الانفصال عن وزيره ومستشاره. إن الجزائريين قد وقعوا ضحية للتعتيم الإعلامي منذ انقلاب 1992 (هذا الانقلاب الذي جمد قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي كان حينها ساري المفعول) عن طريق الدعاية الحاقدة التي تقوم بها بعض الأوساط الفرنسية، تنوب عنهم في الجزائر وسائل الاعلام المسيرة من طرف الجنرالات الاستئصاليين الممسوخين ومسلوبي الفكر. لقد تبنى هؤلاء الجنرالات العنف والقمع كسياسة يراد منها تحويل التاريخ عن مساره الطبيعي وذلك بمحاولتهم ضرب مصداقية الإسلام واتهام اللغة العربية بأنها «عدو» عمومي. إن التعميم وغياب روح المسؤولية لدى هذه الأوساط قد دفعها إلى حد نعت المدافعين عن اللغة العربية «بالارهابيين»(2). إن هؤلاء الأخصائين سيخسرون إن آجلا أم عاجلا كما خسر الاستعمار الفرنسي الذي يمثلون اليوم امتدادا له في الجزائر. لكن إلى ذلك الحين، كم من ظلم سلط على الشعب الجزائري؟! وكم دم سال!؟ وكم من جـرائم!؟ وكم من دموع!؟ على الصعيد الاقتصادي، تعتبر فرنسا الجزائر كمحمية تجارية. وفي هذا الإطار تكبدت الجزائر خسائر جسيمة في عمليات مغرية متواصلة يعود سبب ذلك إلى وجود شبكة مصالح فرنسية في هرم المؤسسة العسكرية وفي الإدارة الجزائرية. ولدى بعض المتعاملين الاقتصاديين العموميين الجزائريين الذين يعملون في الظلام لنذكر مثالين فقط لاثبات ذلك.
٭ استيراد الأدوية: تغطي الجزائر تقريبا كل احتياجاتها الصيدلانية بالاستيراد من فرنسا لأدوية انتهت مدة صلاحيتها في غالب الأحيان، وبأسعار أكبر بكثير من أسعار السوق العالمية. وقد كانت دائما تحدث وبصفة متكررة فضائح يتم التستر عليها في هذا المجال بين 1970 و 1999. إن الخسارة التي تكبدتها الجزائر مضاعفة السعر المبالغ وغير المبرر للمنتوجات المستوردة وعدم استبدال الكميات الهائلة من الأدوية التي انتهت مدة صلاحية استعمالها حيث يتم حرقها مباشرة. وفي هذا السياق، أعلنت الأوساط الرسمية الجزائرية في أوت 1996 بأن وزير الصحة قام بإلغاء معاهدة مع شركة فرنسية لأن سعر الأدوية المستوردة يتجاوز بنسبة 65% ليس الأسعار العالمية، بل الأسعار الاعتبارية التي كانت تطبقها نفس المؤسسة الفرنسية، وقد دامت هذه الحالة منذ 1994(1). ٭ استيراد الحبوب إن الاستيراد المكثف للحبوب من فرنسا منذ انقلاب 1992 يترجمه السعر المبالغ الذي يفوق نسبة 30% إن هذ السعر المبالغ فيه هو نتيجة لعاملين اثنين: العامل الأول وهو أن السعر كان يفوق أسعار السوق العالمية للحبوب، والعامل الثاني يتمثل في الشروط المالية المرتفعة للقروض التجارية الموجهة لهذا الغرض. عندما نجد أن الواردات الجزائرية من فرنسا تمثل نسبة 34% من مجموع وارداتها خلال سنوات 1990 مقابل 17% خلال عشرية 1980، ولو أضفنا الواردات غير الرسمية لوجدنا أن واردات الجزائر من فرنسا تفوق نسبة 50% من مجموع واردات الجزائر، سندرك جيدا حجم الخسائر التجارية والمالية التي تتكبدها الجزائر في وقت تحتاج فيه الجزائر للعملة الصعبة. وهكذا نفهم جيدا لماذا بعض الأوساط في الجزائر وفي باريس هي ضد الديمقراطية وضد الشفافية في الجزائر. ومن جهة أخرى، يصرح بعض القادة الفرنسيين من وقت إلى آخر بين 1993 و1997 بأن دور فرنسا في الجزائر يقتصر على «المساعدة الاقتصادية» التي تمنحها للسلطة الحالية من أجل التغلب على الصعوبات الحادة التي تواجهها ويؤكدون بأن هذه «المساعدة موجهة للشعب الجزائري»(هراء) إن هذه التصريحات توحي لنا بتعليقين. ٭ إن «المساعدة الاقتصادية» التي يتحدث عنها هؤلاء القادة ليست «مساعدة» موجهة للجزائر، بل تمثل مساعدة للاقتصاد الفرنسي. الكل يعلم في الواقع أن القروض الفرنسية للجزائر هي قروض مرتبطة بشراء المنتوجات الفرنسية دون غيرها لكن بأي ثمن. ٭ إن أحسن مساعدة يمكن لفرنسا أن تقدمها للشعب الجزائري هي عدم التدخل عن طريق الجنرالات الاستئصاليين، في شؤونه الداخلية حتى يتسنى للديمقراطية أن تُمَارَس في الجزائر، وحتى يتسنى له أن يختار بحرية وبنزاهة القادة الذين يثق فيهم. فالجزائر ليست بحاجة لا إلى وصاية ولا إلى سماسرة. ولن يسود الاستقرار في ربوع الجزائر إلا بالعودة إلى السيادة الشعبية واحترام هذه السيادة. لكن شهية بعض الأوساط الفرنسية للجزائر تشوش عقولهم كما يشوش الحديد عمل البوصلة. إن وفاء الجنرالات الاستئصاليين للقوة الاستعمارية القديمة راسخ فيهم إلى حد أنهم لجأوا منذ 1992، إلى نفس الأساليب التي كان يستغلها جيش الاحتلال ضد الشعب الجزائري إبان حرب التحرير.
2- العودة إلى الأساليب الاستعمارية.
2-1 تطابق تصور النظام الجزائري منذ 1992 مع تصور سلطات الاحتلال. كان الجنرالات ذوو التوجه الفرنسي وممثلوهم في حكومات غزالي وعبد السلام ومالك يستعملون في محاربتهم للتيار الإسلامي، نفس الأساليب، بل وحتى نفس المصطلحات ونفس التسميات التي كان يستعملها جيش الاحتلال إبان حرب التحرير بين 1954 و1962: العمل البسيكولوجي عن طريق التعتيم الإعلامي، والإشاعــــة وسياســـة الأرض المحروقة والتمشيط واستعمال النابالم أثناء الهجمات الجوية على الجبال، وحرق الغابات وتشكيل مجموعات الدفاع الذاتي، وانشاء فرق الموت واغتيال الشخصيات السياسية وفتح المحتشدات في الجنوب الجزائري والتعذيب والقتل دون محاكمة، والاختطافات أثناء الليل، والمجازر الجماعية لجزائريين أبرياء، ونزوح سكان الأرياف الفقراء إلى مناطق تعتبر أكثر أمنا وغيرها.. أما رجال السياسة الذين كانوا يرفضون الوضع القائم، فقد نُعتوا بالعناصر المخربة وحرموا من أبسط حقوقهم كبشر. لقد وصل التقليد الأعمى للسلطة الاستعمارية ببعض المسؤولين الاستئصاليين مثل سليم سعدي، الذي كان حينها وزيرا للداخلية، بأن يعلن في مارس 1994 «الحرب بلا هوادة» ضد الإسلاميين، وهو ما يعيدنا بغرابة إلى تصريح فرانسوا ميتران لما كان وزيرا للداخلية، الذي قدمه في نوفمبر 1954، مؤكدا أن التفاوض الوحيد مع جبهة التحرير الوطني هي «الحرب بكل الوسائل». الفرق الوحيد بين هذين التصريحين بفارق زمني قدر 40 عاما، هو أن ميتران كان يدافع عن «الجزائر الفرنسية» وسليم سعدي يناضل من أجل فرنسية الجزائر العربية الإسلامية هذا يبين جيدا أن طبيعة الحرب التي يخوضها النظام الاستئصالي الجزائري ليس ضد الإسلاميين فحسب، بل أيضا ضد الأغلبية الساحقة من الشعب الجزائري، ذات البعد حضاري العربي الإسلامي. إن جهاز الدولة ومصالح الأمن يؤطرها ويسيطر عليها عناصر ذات توجه فرنســي تمثل الأقليـة في جــزائر اليــوم كما كان عليه ممثلو الاستعمار الفرنسي قبل الاستقلال.
2-2- أولوية الجانب الاقتصادي لاخفاء المشاكل السياسية الحادة. في 1992، كان المجلس الأعلى للدولة يعتبر، كما فعلت فرنسا في 1954، بأن المشكل ليس سياسيا بل اقتصاديا أساسيا. فقد كان الفرنسيون يقولون بالأمس أن «المسلمين الفرنسيين» هم بحاجة إلى الخبز وليس إلى السياسة نافين تعطش الجزائريين للحرية والاستقلال فالجنرالات الاستئصاليون ذوو التوجه الفرنسي يؤكدون منذ 1992 بأن البطالة هي السبب في زيادة عدد أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ وينفون على الجزائريين تعطشهم للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. قام الجنرال ديغول، من أجل إفشال جيش وجبهة التحرير الوطني، في 1958 بالإعلان عن «مخطط قسنطينة» المتمثل في برنامج استثمار موجة لمكافحة البطالة. وفي 1992، كان البرنامج الاقتصادي للطغمة العسكرية يتمثل في تحقيق حلم غزالي، (الوزير الأول آنذاك) في بيع 25% من حقول البترول بحاسي مسعود بمبلغ 6 أو 7 مليارات من الدولارات الأمريكية. فمن شأن هذه المبالغ أن تسمح بتقليص المديونية الخارجية للبلاد والانطلاق في مشروع واسع لبناء مليون سكن من أجل محاربة البطالة وحل أزمة السكن وسحب البساط من تحت قدمي الجبهة الإسلامية للإنقاذ وذلك باستدراج الشباب من صفوفها. كان الجنرالات الاستئصاليون بعتقدون أنه باستطاعتهم قلب الدعم الشعبي لصالحهم والإحراز على الشرعية لتبرير بقائهم في السلطة. إن النتائج جلية جلاء الشمس في وضح النهار: مازال الجنرالات الاستئصاليون في الحكم (رغم أنه تعاقب على الجزائر بين 1992 و1999 أربعة رؤساء دولة وستة رؤساء حكومة) رامين بالبلاد في طريق مسدود مع ارتفاع لم يكن له مثيل في البطالة والتعفن الخطير للأزمة السياسية. 3- إن التهديدات قادمة من الخارج: كانت فرنسا بين 1954 و 1962 تتهم «الخارج» لاسيما مصر بمساعدة «الارهابيين المتمردين» الجزائريين. ومنذ 1992، يتهم الجنرالات الاستئصاليون وحكوماتهم المتعاقبة «الخارج» لاسيما إيران والسودان بمساعدة «الإرهابيين» الإسلاميين ولإضفاء نوع من المصداقية على اتهاماتهم، قام النظام الجزائري بقطع علاقاته الديبلوماسية مع هذين البلدين. 4- تشـريـع العنـف. صادق البرلمان الفرنسي في 1956 على قانون الأحكام الخاصة للسماح لحكومة غيمولي بتكثيف القمع ضد الشعب الجزائري. وفي 1992، أعلن المجلس الأعلى للدولة حالة الطوارئ، والتي مازالت حيز التطبيق في ديسمبر 1999. تم تكثيف الإجراءات القمعية بمرسوم 30 سبتمبر 1992، وهي نسخة أضيف إليها إجراءات قمعية أخرى، من مرسوم 14 أوت 1941 التي اتخذته حكومة فيشي(1). وبما أن إنتهاك الدستور والقوانيين المعمول بها كان يبدو غير كاف «للتحكم» في الوضع، فقد تفنن النظام الجزائري في انتهاك الحقوق الأساسية للإنسان: اعتقالات جماعية واعتباطية لأناس أبرياء، من بينهم منتخبون محليون ومنتخبون جدد في المجلس الوطني (أنتخبوا في الدور الأول من الانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر 1991) وأساتذة ومهندسون وأطباء ومحامون وتجار وطلبـــة تم الـزج بهم دون محاكـمة في محتشــدات أو في السجون وفي ظروف حبس لاإنسانية.
5- التيار الوطني والاسلامي «ضد الفكر» شرع النظام الجزائري والصحافة الفرنسية في تنظيم حملة واسعة بعد انقلاب 1992، تهدف إلى إظهار الجنرالات ذوي التوجه الفرنسي على أنه حزب المثقفين والجبهة الإسلامية للإنقاذ والوطنين على أنهم حزب الظلاميين وأعداء الفكر . إن الشعب الجزائري في غالبيته لا يصدق هذه الافتراءات، كما كان قد رفض ادعاءات من نفس القبيل كانت تغذيها السلطات حول جبهة وجيش التحرير الوطني بين 1954 و1992. لأن كل الناس يعلمون أن مثقفين (أطباء ومحامون وأساتذة وطلبة) تم توقيفهم ظلما واعتقالهم لسنوات دون محاكمة، حيث لاقوا شتى أنواع التعذيب، بل أنه تم اغتيالهم من طرف مصالح الأمن منذ 1992، وهو ماحدث لأسلافهم من طرف الجيش الفرنسي إبان حرب التحرير. لقد وصل الإضطهاد الثقافي (ضد اللغة العربية خلال فترة الاحتلال وضد اللغة العربية واللغات الأجنبية غير الفرنسية من طرف النظام) الذي تمارسه الإدارة الجزائرية إلى تصرفات تثير السخرية، حيث أن شهادة الدكتوراه المحصل عليها في الولايات المتحدة وفي بريطانيا العظمى، سواء من جامعة هارفارد أو MIT أو أوكسفورد أوكمبريدج، لا يعترف بها كما يعترف بالشهادات الفرنسية بصفة آلية. فهناك أساتذة جامعيون انتظروا مدة 8 سنوات وأكثر ليتم الاعتراف لهم بشهادة الدكتوراه من طرف السلطات الجامعية الادارية الجزائرية.
5- «نحن ومن بعدنا الطوفان» في 1960 و1961، كان الجنرال ديغول يكرر دائما بالموازاة مع الصحافة الفرنسية، أنه إذا اختارت الجزائر الاستقلال، فسيكون الخراب. ومنذ 1992، يصرح الجنرالات الاستئصاليون وممثلوهم في الصحافة الجزائرية والفرنسية ، بأنه إذا وصل الإسلاميون إلى الحكم ولو بطريقة ديمقراطية، فستكون الحرب الأهلية، وستصبح الجزائر كأفغانســتان يالـــه من تشبــيه غريب في فن التعتيم والبلبلة! إن ذكر بعض هذه الحقائق يدل عى الطابع الخفي للأزمة الحضارية التي تغذي الأزمة السياسية. إن الجهاز الإداري القمعي والنظام التربوي المبتور الموروثين عن الحقبة الاستعمارية قد زادا من حدة الصراع في الجزائر بين أقلية مسلوبة الفكر مرتبطة بفرنسا والتي استولت على الحكم بالقوة من جهة، وأغلبية ساحقة من الشعــب الجزائـــري تتطلـع إلى تغييرات عميقة في النظام بطريقة ديمقراطية من جهة ثانية.
3 - البرنامج الاقتصادي للطغمة. إن الأولوية المعطاة من طرف الجنرالات الاستئصاليين للجانب الاقتصادي على حساب الجانب السياسي يفسر الإبقاء على غزالي كوزير أول بعد انقلاب جانفي 1992، والذي تربطهم معه علاقات حميمية كثيرة. يتمثل البرنامج الاقتصادي الهزيل للطغمة الحاكمة في تنفيذ وعد غزالي الذي قدمه في صيف 1991، والمتمثل في بيع 25 % من حقول البترول بحاسي مسعود بمبلغ 6 أو 7 مليارات من الدولارات. يتعلق الأمر باستعمال هذه المداخيل المرسلة من السماء في بعث مشروع واسع لبناء مليون سكن في بضع سنوات لمحاربة البطالة وامتصاص أزمة السكن. ويتعلق الأمر كذلك بتقليص المديونية الخارجية للجزائر والتي أصبحت تشكل عبئا حقيقيا يعيق كل محاولة للتقويم الاقتصادي. ويعتقد الجنرالات الاستئصاليون هكذا أنه بوسعهم التغلب على الأزمة الاقتصادية وتحسين الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ومن شأن نتائج إيجابية من هذا القبيل أن تسمح لهم بالحصول على التفاف الشعب حولهم وبتبرير بقائهم في الحكم. فما هي في الواقع خلفيات ونتائج بيع جزء من حاسي مسعود؟ بيع حاسي مسعود إن المعطيات التقنية المتوفرة لدى سوناطراك، والتي أعدتها شركات أجنبية لاسيما الشركة الأمريكية «دي غلوير أند ماك ناوتن» تبين أن الاحتياطات البيترولية القابلة للاسترجاع في حاسي مسعود تمثل 66% من احتياطات الجزائر وقدرت حينها بحوالي 478 مليون طن. إن بيع 25% من هذه الكميات يعادل تقريبا 120 مليون طن، أي حوالي 960 مليون برميل. إن التخلي عن هذه الكميات بسعر 6 أو 7 مليارات من الدولارات كما تم الإعلان عنه يعني أننا نبيع بترولنا إلى الشركات المتعددة الجنسيات بسعر 6 أو7 دولارات للبرميل عوض بيعه بسعر السوق الذي كان يدور حينها بين 18 و20 دولار للبرميل، يعني هذا أن عملية من هذا النوع، لو تحققت، لحرمت الجزائر من 12 أو 13 مليارا من الدولارات وهذا من شأنه أن يعتبر تحويلا صافيا لثروات معتبرة من بلد فقير نحو بلدان غنية. لكن لو أخذنا بعين الاعتبار تصريحات غزالي الذي يقدر الاحتياطات القابلة للاسترجاع، في حاسي مسعود ليس بهذا العدد، أي 478 مليون طن، لكن يقدرها بحوالي 4 ملايير طن (وهو ما ننفيه) فإن بيع 25% من حاسي مسعود يصبح 1,25 مليار طن أي 19 مليار برميل. وستتراوح الهدية التي سوف تمنح للشركات العالمية في هذه الحالة بين 120 و140 مليار دولار حسب سعر السوق. زيادة على ذلك، ففكرة اللجوء إلى الشركات المتعددة الجنسيات لتقوم باستغلال الحقول الموجودة بهذا السعر مرفوضة من أصلها. فالذي كان يجب تشجيعه بالعكس، هو إشراك هذه الشركات الأجنبية في البحث والتنقيب عن هذه الحقول الجديدة لرفع إحتياطاتنا البترولية وذلك باتخاذ إجراءات تشجيعية ملائمة. وقد أعلن غزالي، من جهة أخرى، في 1991 بأن بيع 25% من حاسي مسعود بوسعه ضمان مداخيل إضافية قدرها 140 مليار دولار في بضع سنوات فقط بفضل زيادة الصادرات الناتجة عن ذلك. لكن الأيام أثبتت أن هذا لم يكن إلا تخيلات وآماني! لقد سبق وأن بيّنا بطلان هذا النوع من التصريحات الطريفة والخارقة(1). في الواقع، كانت هذه التصريحات المدهشة التي لاأساس لها، تهدف إلى تخدير الرأي العام الوطني لابعاده عن الأحزاب السياسية التي بدأت شعبيتها تتزايد أكثــــر فأكثـــر وكلمــا اقتربنـــا من موعـد الانتخابات التشريعية المحدد بتاريخ 26 ديسمبر 1991، حيث انتصرت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتي تم إلغاؤها بسرعة البرق. وكانت هذه التصريحات تهدف كذلك إلى إبراز غزالي «كجوهرة مفقودة» لتعزيز مواقع الجنرالات الاستئصاليين الذين عملوا على تعيينه كوزير أول وتهدف هذه التصريحات في الأخير إلى طمأنة القوى الأجنبية، لاسيما فرنسا، وذلك بإعطاء شركاتها الفرصة لاستغلال الحقول الموجودة بأسعار زهيدة جدا من جهة، وبإبراز الجزائر كبلد غني وسوق واسعة معتبرة، بوسعها منحهم مجالا لتصريف سلعهم. وهكذا تعرف صادراتهم نحو الجزائر ارتفاعا معتبرا من جهة أخرى. كانت حكومة غزالي تعتقد، باعتمادها في «سياستها الاقتصادية» فقط على بيع 25% من حاسي مسعود، أن الإسراع في تنشيط الصادرات البترولية وحده كفيل باخراج الجزائر من أزمتها الاقتصادية والمالية ومن وضعية مديونيتها الخارجية الخطيرة. إن تطبيق هذه السياسة وبحصرها برنامج الاقتصادي في بيع البترول فقط، فإن الحكومة تعمل بذلك على اخفاء المشاكل الأساسية مثل ضرورة ترقية الفلاحة وتنظيم الاقتصاد الوطني واندماجه وإعادة بعث قطاع البناء والأشغال العمومية وتطهير الاقتصاد وخلق مناصب شغل والإصلاح الجبائي ومحاربة الفقر الزاحف وغيرها والتي تمثل مجالات عاجلة وحساسة كذلك. لكن للأسف، فلا الصالح العام ولا التنمية الحقيقية للجزائر تهمان حكومة غزالي والجنرالات الاستئصاليين الذين عينوه. من الواضح أن بيع 25% من حاسي مسعود تندرج في سباق منطق «النظام العالمي الجديد» الذي انطلق مع الحرب ضد العراق والمتميز بسيطرة الولايات المتحدة على احتياطات بترولية ضخمة في بلدان الخليج. في هذه الظروف، وجدت فرنسا الفرصة المناسبة لبسط سيطرتها مجددا على حقول بترولية جزائرية كانت قد اكتشفتها هي فيما سبق، وتم تأميمها من طرف الجزائر في 1971 و1980. وباختصار، فإن فرنسا تريد أن يكون لها هي أيضا «خليجها». في الحقيقة، لقد أصبحت الجزائر، رغم موقعها الجغرافي والسياسي الاستراتيجي، هشة بفعل ثقل مديونيتها الخارجية الكبيرة وأصبحت تمثل هدفا «سهلا» للمصالح الفرنسية في هذا الإطار، نجد أن قرض 100 مليون دولار الممنوح لسوناطراك من طرف البنك العالمي مع تمويل مشترك قدره 7,7 ملايين دولار ممنوحة من طرف طوطال (وهي شركة بترولية فرنسية) له أكثر من دلالة. فالاتفاق الذي تم التوقيع عليه في بداية شهر أوت 1991 بين الجزائر والبنك العالمي حول هذا القرض، ينص على «خوصصة» النشاطات البترولية زيادة على شروط مجحفة لمراقبة نشاطات سوناطراك من طرف البنك العالمي. هذه الشروط لم تكن مجحفة وغير متكافئة فحسب بالنسبة للمستوى المتدني للقرض ولقدرة سوناطراك الكبيرة في التسديد (حيث أن مداخيلها الخارجية كانت تقدر بحوالي 12 مليار دولار سنويا). لكنها تحل كذلك بالتسيير التقليدي للبنك العالمي. إن عودة شركة طوطال الفرنسية إلى حاسي مسعود، التي أممت مصالحها في 1980، يبدو أنه تم تنظيمها وتمويهها بصفة جيدة. فبيع 25% من حاسي مسعود تم تقديمها على أنها قرار وطني للخلاص، قد تم إعداده من طرف جهات خارجية ولا يستجيب مطلقا لمصالح الجزائر. إن تطبيق هذه السياسة لإلغاء نظام تأميم المحروقات و«خوصصتها» والصورة الجميلة التي قدم بها قانونيا وماليا وتقنيا، هو إذن مستوى من الخارج، حتى وإن كان المتعاملون الظاهرون والمحيطون بهم جزائريين ومنهم من كان عضوا في حكومة غزالي.
بعث الاقتصاد. يعتمد بعث الاقتصاد على الخوصصة المقنعة للمحروقات. إن سياسة خوصصة المحروقات هذه التي دشنها غزالي في 1991، كما ذكرنا ذلك سابقا، قد عادت في الواقع لتطفو على السطح في 1995 وفي 1996 لينتج عنها تبني الحكومة تشريعا جديدا ينظم قطاع البترول والغاز. وعلى إثر ذلك قامت سوناطراك بالتوقيع على عقود «شراكة» مع 36 مؤسسة بترولية عالمية. وقد أصبح محيط البحث والاستغلال الممنوح لهذه الشركات الأجنبيــة يشمــل حتى حقـــول البتــــرول الموجودة أصلا. إن استغلال حقــــول موجـــودة من قبـل من طرف متعاملين أجانب يمثل في الواقع خسارة واضحة للجزائر، ويعد كعملية بيع بثمن رخيص لموارد استراتيجية مآلها الزوال وغير قابلة للتجديد. إن هذة السياسة الجديدة للخوصصة المقنعة(1) ولتصفية المحروقات تقدم من طرف الحكومة كنجاح سياسي ومالي عالمي، لأن هذه العقود ستؤدي إلى القيام باستثمارات قدرها 10 مليارات من الدولارات على امتداد 20 عاما. فيما يتعلق بالعقود، فإن مفعولها في مجال الشغل وفي ميزان المدفوعات يكاد يكون منعدما. فمن جهة، هذه الاستثمارات المعتبرة لا تمثل لا تحويل لرأس مال عن طريق بنك الجزائر (وهو البنك المركزي للبلاد) ولا إثراء للاقتصاد الجزائري بالعملة الصعبة. بل أن هذه الاستثمارات تمثل قيمة المعدات المستوردة والمستعملة من طرف الشركات الأجنبية في مختلف الحقول المعدة لهذا الغرض وتستعمل كذلك في تسديد تكاليف مختلف الخدمات الأجنبية والخبراء الأجانب الذين وُضفـــوا بهذه المناسبة . ومن جهة أخرى، فإن أثر هذه الاستثمارات في سوق الشغل تكاد تكون منعدمة نظرا للمستوى العالي المشروط في العمال المطلوبين، والمتمثل أساسا في خبراء يتم تحويل مرتباتهم إلى الخارج. وسيكون اللجوء إلى اليد العاملة الجزائرية غير المؤهلة بالتأكيد، ظرفيا ومحدودا. وهكذا فإن المؤثرات المالية لهذه الاستثمارات ستكون لفائدة الخارج أكثر مما تكون لفائدة الاقتصاد الجزائري. إن الحكومة الجزائرية والصحافة المأجورة تبالغ في مدح هذه الصفقات البترولية والغازية التي كما يقولون، سوف تساهم في ترقية صادرات الجزائر من المحروقات وسوف توفر للبلاد مابين 14 و15مليار دولار سنويا ابتداءا من 2003. فيما يتعلق برفع صادرات الجزائر من المحروقات فإن الجزائر التي ترتبط باتفاقيات الأوبيب التي هي عضو فيها، لا يمكنها رفع حصتها حسب رغبتها. وإن فعلت فستنحو باقي البلدان نحوها وتتهاوى أسعار البترول آليا. فلا يمكن تعويض انخفاض سعر البترول برفع الكميات المصدرة، كنا اتضخ ذلك ميدانيا خلال 15 سنة الأخيرة. أما فيما يخص مستوى المداخيل من صادرات المحروقات المقدر بين 14 و15 مليار دولار في 2003، والذي قدمته الحكومة في 1996 و1997 كموجة رخاء مالية حقيقية، فإنها لا تمثل في آخر المطاف إلا المستوى الذي كانت الجزائر قد حققته بين 1979 و1984، عندما كانت المداخيل الخارجية من المحروقات تتراوح بين 13 و14 مليار دولار سنويا وهذا عندما كان الدولار، وهو وحدة التعامل في سعر البترول، أقوى مما هو عليه اليوم، وكان عدد سكان الجزائر لايفوق 20 مليون ساكن فما تقدمه الحكومة الجزائرية كنجاح مالي لم يسبق له مثيل ليس في الحقيقة سوى العودة إلى مستوى المداخيل من المحروقات المسجل في النصف الأول من عشرية 1980. والفارق الوحيد هو ارتفاع عدد سكان الجزائر بحوالي 12 مليون، حيث ينتقل من 20 مليون نسمة في 1980 إلى 32 مليون في 2003. وسيكون من المستحيل، مع مستوى مداخيل المحروقات المتوقع تلبية الاحتياجات الإضافية في مجالات الغذاء والشغل والسكن وغيرها. فكل سياسة النظام الجزائري مبنية على التزوير والغش والتعتيم الإعلامي والتلاعب بالأفعال والأرقام. فهكذا نجد أن التنازلات المعتبرة الممنوحة للشركات الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية تقدم للرأي العام على أنها نجاح سياسي ومالي للجزائر، في الوقت الذي تعرف فيه الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد تدهورا مأساويا(1).
تدهور الوضع الاقتصادي: لقد تدهورت الحالة الاقتصادية للجزائر بشكل خطير منذ انقلاب 1992 كما تبينه الدلائل التالية: 1)- الناتج الداخلي الخام للفرد تهاوى بشكل مأساوي من 2500 دولار سنويا في 1990 إلى 1376 في 1997 ليصل إلى 1661 دولار في 1998(2). 2) التهميش المتواصل للفلاحة مما أدى إلى ارتفاع الواردات من المواد الغذائية والزراعية إلى حد كلفت فيه البلاد حوالي 3 مليارات من الدولارات في 1998. 3) في 1997-1998، كان القطاع الصناعي العام والخاص خارج المحروقات يشتغل بأقل من 20% من طاقته الفعلية. 4) نسبة الاستثمار (النسبة بين الاستثمار والناتج الفردي الخام) خارج المحروقات المسجل منذ انقلاب 1992 لم يسبق لها أن عرفت مستوى بهذا الشكل خلال الثلاثين عاما الأخيرة. استعمل قسم مهم من المداخيل المالية المتوفرة في زيادة الواردات من المواد الاستهلاكية والتجهيزات العسكرية والحربية. وارتفعت المصاريف العسكرية بشكل معتبر خلال العشرية الحمراء. وقد ارتفعت هذه المصاريف بنسبة 44% في 1994 وبنسبة 144% في 1995 لتصل إلى ملياري دولار في 1996 (3) في 1998، ارتفعت هذه المصاريف بنسبة 100% كل هذا على حساب الاستثمار المنتجة لقد ارتفعت النفقات العسكرية بسرعة لزرع الرعب، بينما تزداد رقعة الفقر اتساعا في ربوع البلاد نتيجة تأزم الوضع الاقتصادي. 5)- تباطأت النشاطات في قطاع البناء والأشغال العمومية إلى حد أصبحت فيه أزمة السكن على فوهة بركان. 6) تجاوزت البطالة المتنامية باستمرار نسبة 40% منذ 1997 ووصلت إلى 50% بل وأكثر في مناطق كثيرة بالبلاد. وتمس ظاهرة البطالة الشباب بالخصوص. فالشباب الذين تتراوح أعمارهم مابين 16 و19 عاما، يمثلون نسبة 83% من مجموع العاطلين عن العمل. وقد انتقل عدد العاطلين عن العمل من 1300000 في 1992 إلى 3500000 في 1998. وبما أن فرص خلق مناصب عمل نادرة، بسبب انخفاض معدلات الاستثمار، فإن البطالة ستتفاقم أكثر مرة ثانية لتصل إلى مستوى مأساوي خلال السنوات القادمة، إذ أنها ترتفع بوتيرة معدلها 260000 بطال سنويا. 7) التضخم الناجم عن الارتفاع المزدوج لأسعار المواد المستوردة (بسبب انخفاض قيمة الدينار) وتكاليف الإنتاج، تجاوز نسبة 40% في 1994 وفي حدود 32% في 1995، وهو المستوى الذي لم يسجل قط منذ الاستقلال. إن الوضعية أكثر خطورة في الواقع إذا علمنا أن القدرة الشرائية للمواطن قد انخفضت بشكل مأساوي مقارنة بسنوات 1970 و1980 عندما كان المستهلك الجزائري يخصص نسبة 40% من ميزانيته للمواد الغذائية. وقد ارتفع المستوى العام لأسعار المواد الاستهلاكية الأساسية إلى معدل سنوي متوسط فاق 90% في منتصف سنوات 1990 (200% بالنسبة للقهوة، 120% بالنسبة للخبز، 110% بالنسبة للحليب، 90% بالنسبة للسكر..إلخ). إلى حدا أصبح فيه راتب موظف متوسط لا يلبي احتياجاته الأساسية للبيت، فما بالك بالموظفين ذوي الدخل الضعيف أو البطالين الذين ينخرهم الحرمان والفاقة. 8) المدويونية الخارجية ارتفعت من 26 مليار دولار في 1992 إلى 34 مليار دولار في 1998 وتفوق 40 مليار دولار لو أضفنا إليها الديون العسكرية التي تخفيها الإحصائيات الرسمية بإحكام. فالمديونية الخارجية تمثل عبئا ثقيلا سيعمل في الظروف الاقتصادية الحالية على تأزيم التدهور الحالي وكبح الطاقات الموجهة للانطلاق الاقتصادي في السنوات القادمة. 9) إن التحكم في الواردات (التي تتراوح قيمتها بين 10 و11 مليار دولار سنويا) من طرف حفنة من الناس حلوا محل الدولة التي كانت تحتكر التجارة الخارجية وتعميم الرشوة (المقدرة بحوالي ملياري دولار سنويا) قد خلق طبقة جديدة من الطفيليين والنهابين الذين حولوا لصالحهم ثروات هائلة. وما زاد في خطورة ذلك، هو أن التجارة الخارجية تمثل في الجزائر نسبة 65% من الناتج الداخلي الخام) في 1999 و68,4 في 2000(1). إن خوصصة الدولة واقتصاد السوق المنحرف الذي يرافقها أديا إلى تجميع هائل للثروة بين أيدي الأقلية، كما أديا إلى تفقير الشعب والإقصاء الاجتماعي، وهي صفات أصبحت منذ الآن تميز المجتمع الجزائري. وقد انتهـــت هذه المرحلـــة الانتــقـاليـــة إلى ما انتهـــت إليـه الفترتان الانتقاليتان السابقتان. الأزمة السياسية تفاقمت وأصبحت الوضعية الاجتماعية تمثل كارثة. فوعود الحكومات بالسلم والانبعاث الاقتصادي تذهب كما جاءت، لكن المأساة باقية. إن الوعود التهريجية لغزالي تمر لكن المآسي المادية والفكرية باقية وهي تتفاقم مع مرور الأيام. إن كل سياسة النظام العسكري ذي التوجه الفرنسي تعتمد على التزوير والكـذب والتعتـيم الإعلامي والمناورة، ليس فقط في المجال السياسي والاقتصادي كما رأينا ذلك، بل حتى في المجال الأمني الذي يفضلونه، وذلك بعملهم على زرع الرعب.
4- سياسية الرعب: يعتمد الجنرالات الاستئصاليون على بعض الأحزاب السياسية المهمشة وإنشاء الديمقراطيين الذين أقصوا كلهم في أول انتخابات تشريعية متعددة في البلاد التي أجريت في ديسمبر 1991، والذين سارعوا مباشرة بعد الإعلان عن النتائج إلى المطالبة بإلغائها. إن إقصاءهم من طرف صناديق الانتخاب أمر طبيعي جدا وغير مفاجئ، بما أنهم مقطوعون عن القاعدة. يعتمد الجنرالات الاستئصاليون للبقاء في السلطة، أساسا على استعمال القوة وعلى تفريق الأحزاب السياسية ذات التمثيل الشعبي (وذلك باختراقها وتحريكها من طرف مصالح الأمن). انطلقـــت الطغمــة الحاكــمة، غداة الانقلاب، في سياستها الأمنية المعتمدة على القمـــع الشامــل. فـتم توقيــف عشـــرات الآلاف من الجـــزائريين الأبرياء والزج بهم سواء في السجون أو في المحتشدات بالصحراء. وأصبح التعذيب والاختطاف من البيوت وأماكن العمل والاغتيالات دون حكم قضائي منذ ذلك من الممارسات اليومية! ومنذ الأسبوع الأول للانقلاب، تم إحالة آلاف الضباط العسكريين، من جميع الأعمار على التقاعد المسبق، لأنهم مشبوهون بالتعاطف مع الحركة الإسلامية أو لمجرد أنهم يؤدون الصلاة! وتم إنشاء وحدات خاصة مكلفة بالقمع مثل «النينجا» و«كتائب الموت» يفوق عددهم 80000 رجل. وقد تلقوا تدريبا خاصا، بما فيها غسل المخ، بتعاطيهم للمخدرات. ويكون الضباط المؤطرون لهذه الوحدات قد قاموا بتربص في فرنسا. امتد مجال القمع بسرعة إلى غير مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومست عمليا كل من يجرؤ على شجب أو معارضة سياسة النظام القمعية، سياسيا وسلميا، أو أولئك الذين يختلفون في تفكيرهم عن الطغمة. بدأ إغتيال الشخصيات السياسية مبكرا ابتداءا من 1992، فتم القضاء على محمد بوضياف، الذي عين رئيسا للدولة من جنرالات لا وطنية لهم، بأمر من هؤلاء الجنرالات أنفسهم ستة أشهر من بعد، لأنه تجرأ على محاولة إيجاد حل سياسي للأزمة وتجرأ أيضا على الحديث عن ملف الرشوة(1). وكان لقاصدي مرباح نفس المصير لأنه نادي بالمصالحة الوطنية والحوار بين السلطة والأحزاب الممثلة.. بما فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فمن بوضياف ومرباح إلى عبد القادر حشاني المغتال في نوفمبر 1999، مرورا بالجنرال سعيدي فضيل الذي تم إخفاء اغتياله تحت غطاء حادث سيارة، وبوبكر بلقايد وهو وزير الداخلية السابق في حكومة مرباح. وعبد الحق بن حمودة الذي كان أمينا عاما للاتحاد العام للعمال الجزائريين، نجد الاغتيالات السياسية تعكس التدهور المتزايد للوضع الأمني.« إن الجرائم السياسة في الجزائر قد احتفظت كلها بنصيبها من الظل»(1). وتؤكد على أن العنف هو سياسة مدبرة ومقصودة من طرف النظام. إن الطغمة الحاكمة هي التي تقوم بتغذية العنف في الواقع. فبالإضافة إلى الوحدات الخاصة للقمع المكونة من 60000 رجل والتي أنشئت في 1992، قرر النظام ابتداء من 1993-1994 تكوين ميليشيات. في نفس الوقت، انتقلت مصالح الأمن العسكري إلى الهجوم وذلك بإنشاء أو باختراق وتحريك «الجماعات الإسلامية المسلحة»(2). الميلـيشيـــات: طلب رضا مالك، الذي كان حينها وزيرا أولا، ووزيره للداخلية سليم سعدي، علانية في 1993 إنشاء ميليشيات «لإرهاب الإسلاميين». «لقد آن الأوان ليغير الرعب مركزه» كما صرح به مالك، الذي لم يعمل إلا على السير على خطى وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، باسكوا الذي دعا قبل ذلك ببعض الوقت السلطات الجزائرية إلى «إرهاب الإسلامين». 1) منذ سبتمبر 1993، بدأت الجماعات الاسلامية المسلحة، تساندها مصالح الأمن العسكري، في ضــرب الأجــانب والصحافـــيين والمثقـفين. لقد تم القيام بذلك من أجــل إظهــار الإسلاميــين على أنهم أناس متوحشون وهمجيون ومن أجل كسب دعم الرأي العام في فرنسا وفي الغرب يهدف ترسيخ وتعزيز سلطة الطغمة الحاكمة. إن الجزائريين لديهم الأدلة الكافية في هذا المجال، مثل اختطاف الديبلوماسيين الفرنسيين ثم الإفراج عنهم، واغتيال بعض الفرنسيين خلال الهجوم على المركز الفرنسي بعين الله، الذي يبعد بحوالي 100 متر عن مقر القيادة العامة للأمن العسكري، أو اختطاف واغتيال الرهبان السبعة في تيبحيرين، الذين كان يقدّرهم السكان ويحترمهم الإسلاميون في المدية(1)، أو كاغتيال الصحافيين مثل الطاهر جعوط وعبادة وحيرش وغيرهم، بأن هذه العمليات قد دبرتها مصالح الأمن ونسبت للإسلاميين. ولما حقـــق الاستئصاليون هدفهم في أقل من عــامين وذلك بتجنيــد الإعــلام في فرنسا ضد الحركة الإسلامية، توقف اغتيال المثقفين والصحافيين بسرعة وبقدرة قادر! 2)- منذ 1994، عوض أن تقوم الجماعات الإسلامية المسلحة بضرب أهداف عسكرية والدوائر المسؤولة عن إلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي من المفروض أن عناصر هذه الجماعات تنتمي إليها، استهدفت هذه الجماعات من الوهلة الأولى الجيش الإسلامي للإنقاذ والقاعدة الاجتماعية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. 3) خلال عامي 1994 و 1995، قامت كتائب كاملة من الجنود بالفرار من ثكناتهـــم بأسلحتهــم وامتعـــتهـــم والتحــقت بالاســـلاميين في تابــــلاط والأربعاء وفي منطقة عين وسارة. وقد قامت الجماعات الاسلامية المسلحة بالقضاء على كل الفارين. وعلى عكس ذلك، فعندما يلتحق جنود شباب فروا من ثكناتهم، بالمعارضين الإسلامين في مناطق خالية من الجماعات الإسلامية المسلحة، كما حدث ذلك في منطقة عين الدفلى في شهر أفريل من عام 1995، فإنه يقع على عائق الجيش مهمة ملاحقتهم بوسائل عسكرية ضخمة (فرق المشاة ومدفعية الميدان والطيران مشتركة مع بعضها بعض) مستعملة كل أنواع الأسلحة، بما فيها قنابل النابالم المحرم استعمالها دوليا. وقد أعلن الجيش على إثر تلك الهجومات عن مقتل أكثر من «2000 ارهابي». تم الإعلان عن ذلك في الوقت الذي يؤكد فيه النظام رسميا على أن عدد «الإرهابيين» لا يتجاوز 2000 على مجمل التراب الوطني. وهو ما يعني أن الألفي ضحية التي سقطت من جراء الضربات الجوية في منطقة عين الدفلى في يوم واحد فقط، هم في الواقع مدنيون لقد قُتل هؤلاء الفلاحون القاطنون بالجبال لأنهم متهمون بمساعدة الإسلاميين المسلحين والفارين الذين لم يستطيع الجيش تحديد مكانهم أو بالأحرى الوصول إليهم. 4) التحق الشيخ محمد السعيد وعبد الرزاق رجام، وهما من قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بالجماعات الإسلامية المسلحة برفقة عدد كبير من المناضلين في ماي 1994، وكانوا لايعلمون أن الجماعات الاسلامية المسلحة قد اخترقتها وتحركها مصالح الأمن. 5) إن حالة عنتر زوابري تعد مثلا جليا. وهو قائد الجماعات الإسلامية المسلحة منذ 1996، وتصفه صحافة السلطة كبطل لا يمكن القبض عليه. وقد تم الإعلان رسميا عن مقتله عدة مرات، لكن الواقع يكذبهم في كل مرة. وقد كتبت الأسبوعية الفرنسية «باري ماتش» في عددها الصادر يوم 9 أكتوبر 1997، بأن مصالح الأمن البريطانية (بسكوتلاندريار) قد تفاجأت لما اكتشفت أن المكالمات الهاتفية بين «مقر» الجماعات الإسلامية المسلحة بالجزائر والمصري الذي يسمى نفسه «الشيخ» حمزة، وهو ممثلهم في أوربا والمسؤول عن نشرية الجماعات الإسلامية المسلحة «الأنصار» كانت صادرة عن إحدى ثكنات الجيش الجزائري!! ومن جهة أخرى، فقد كتبت يومية الوطن القريبة من الأمن العسكري في عددها الصادر يوم 27 أفريل 1998، أن الجيش قد شن عملية عسكرية ضخمة في الغرب الجزائري ضد جماعات إسلامية مناهضة لجماعات زوابري. 6) مختلف العمليات المنفذة في فرنسا، لاسيما في ميترو باريس، والمنسوبة للإسلاميين لم تكن في حقيقة الأمر إلا من تدبير مصالح الأمن الجزائرية. أكدت لي شخصية فرنسية، في الإطار، بأن الرئيس شيراك بعث برسالة إلى الرئيس زروال، بعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية في نوفمبر 1995، تشير هذه الرسالة، من بين ما تشير إليه. إلى أن الرئىس الفرنسي لن يسمح قط منذ تلك اللحظة للمصالح السرية الجزائرية بتنظيم عمليات في فرنسا. وللمصادفة، فمنذ ذلك التحذير الفرنسي، لم تحدث أية عملية «إسلامية» في فرنسا. واختفت الجماعات الإسلامية بسرعة من الديكور الفرنسي بقدرة قادر!!
7) إن فرنسا وعدد كبير من الدول الغربية على علم بأن الجماعات الإسلامية المسلحة قد اخترقت من طرف الأمن العسكري الجزائري الذي يتحكم فيها بصفة جيدة على أعلى مستوى. فمنذ فيفري 1995، أشارت وسائل إعلام عديدة مثل «إذاعة فرنسا الدولية» ويوميات «لوموند» و «لوفيغارو» و«وليبيراسيون» وأسبوعيات مثل «ليكسبراس» و «لوبوان» وعدد آخر كبير من الصحف، أكثر من مرة اختراق مصالح الأمن الجزائرية للجماعات الإسلامية المسلحة. لقد أشارت «لوموند» يوم 5 مارس 1998، على سبيل المثال، إلى أن كل المصالح السرية الغربية مقتنعة بأن الجماعة الإسلامية المسلحة مخترقة من طرف المصالح العسكرية السرية الجزائرية لضرب مصداقية الإسلاميين والإبقاء على مناخ الرعب تفاديا لكل ثورة. باختصار، فسواء كانت الجرائم الكبيرة أو اغتيال عائلات كاملة من عمل كتائب الموت أو الميليشيات أو الجماعات الإسلامية المسلحة الموجهة والتي تحركها أيادي خفية، فإنه لجلي أن سياسة الرعب المنتهجة بين جانفي 1992 وجانفي 2000 (أثناء كتابة هذه السطور) تمثل بالنسبة للنظام الجزائري سياسة مقصودة ومدبرة من أجل البقاء والاحتفاظ بالحكم عن طريق القوة والعنف وبمناهضة التحرر السياسي ومعارضة المسار الديمقراطي والإرادة الشعبية. لقد تدعم هذا الاضطهاد الجسدي باضطهاد سياسي وثقافي. بما أننا نشاهد بأعيننا منذ انقلاب 1992 تسليط هجومات جماعية متتالية، عن طريق وسائل الاعلام التي يتحكم فيها الأمن العسكري، ضد رموز الجزائر الثابتة، وهي الاسلام واللغة العربية والوحدة الوطنية والتضامن والعدالة الاجتماعية وغيرها. إن النظام الجزائري الذي تسانده فرنسا سياسيا وديبلوماسيا وماليا وعسكريا، يعمل على ضرب هذه الرموز بالحديد والنار لا لشيء إلا لأن غالبية الشعب الجزائري انتخبت لصالح الإسلاميين في 1990 و 1991. يبدو أن هذا القمع المسلط على الشعب الجزائري منذ 1992 زيادة على الدعاية الإعلامية الصاخبة التي تغذيه، يهدف إلى جعل الجزائريين يندمون على استقلالهم وإلى معاقبة الشعب الجزائري على الاختيار الذي عبر عليه بكل سيادة خلال الانتخابات التشريعية لشهر ديسمبر 1991، والتي تم إلغاؤها بسرعة. كل هذا يدخل في إطار الحملة العالمية لتشويه الاسلام، الذي أصبح مرة ثانية «العدو الشامل» الجديد للغرب(1). إن النظام الجزائري، الذي يفتقد إلى الشرعية، سيستعمل العنف لمحاربة الإسلام من أجل كسب الاعتراف الدولي بغية التعامل معه. ولما كان النظام يدرك عدم شعبيته (وهو أقل ما يمكن قوله) في الداخل، وعزلته النسبية في الخارج، فقد حاول أن يعطي لنفسه شرعية بالرجوع إلى المسار الانتخابي في نوفمبر 1995، لكن ليس عن طريق الديمقراطية التي يتعطش لها الشعب الجزائري. 5-من مرحلة انتقالية إلى مرحلة انتقالية: الاستقرار المفقود. كان مآل المرحة الانتقالية الأولى التي أعلن عنها المجلس الأعلى للدولة (جانفي 1992 - ديسمبر 1993 والتي توافق نهاية عهدة الرئيس الشاذلي بن جديد) الفشل في الواقع، كان النظام يريد الاستفادة من هذه المرحلة في امتصاص الأزمة السياسية وقلب المسار لصالحه. لكن لاحظنا جيدا أن أهداف الاستقرار السياسي والانطلاق الاقتصادي المسطرة لم يتم تحقيقها وأن الأزمة المتعددة الأبعاد قد تفاقمت أكثر. أما المرحلة الانتقالية الثانية (جانفي 1994- نوفمبر 1995) والتي تميزت «بتعيين» زروال كرئيس للدولة، فقد وصلت إلى طريق مسدود. وخلال هذه المرحلة، لا السياسة الأمنية القمعية التي أثبتت محدوديتها، ولا المفاوضات الملغمة بين النظام وقائدي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، عباسي مدني وعلي بلحاج، استطاعت إعادة الأمور إلى طبيعتها. فقد أغلق المجال السياسي كلية. إن العقد الوطني الذي تم التوقيع عليه «بسانت إيجيديو» في جانفي 1995 من طرف ستة أحـــزاب سياسيــة تمثيليــة ورئيـــس الرابطـة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان يمثل لامحالة مساهمة إيجابية من أجل إخراج الجزائر من الأزمة المأساة التي تتخبط فيها. لكن النظام أضاع فرصة ذهبية لوضع حد لإراقة الدماء وبدء مرحلة مليئة بالآمال الكبيرة، وذلك يرفضه العقد الوطني «جملة وتفصيلا». لقد تم الإعلان بأن السلم غير مرغوب فيه من طرف النـظام. وزادت حدة الأزمة مع ارتفاع عدد ضحايا العنف واتساع الفقر بين أوساط الشعب. وفي نفس الوقت، انتهى الأمر بالنظام في 1995 إلى تكريس عزلته، سواء بالداخل أو بالخارج. ولما كان النظام يريد البقاء أكثر وربح الوقت، واعيا في نفس الوقت بافتقاده للشرعية، قرر العودة إلى المسار الانتخابي الذي كانوا قد ألغوه في جانفي 1992. وقد تم تجنيد وسائل ضخمة من جهة لتحسين صورته السياسية خارجيا بمواصلة سياسة العنف التي يخوضها لارهاب الشعب الجزائر وواعدا من جهة أخرى بانطلاق اقتصادي في المستقبل القريب. هـــذا الدافــع الذي جعــــــل النظـام يدشن مرحلة انتقاليـــة جــديـــدة للعــــودة إلى ديمقراطية الواجهة. ففي هذا الإطار كانت الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1995 والانتخابات التشريعية والمحلية المنظمة على التوالي في جوان وأكتوبر 1997، تهدف أساسا إلى تنميق مصداقية النظام خارجيا، لا سيما في نظر البلدان الغربية. وتم في نوفمبر 1996 المصادقة على تعديلات دستورية. وقد أفرغت هذه التعديلات البرلمان من صلاحياته. تميزت الانتخابات التشريعية لعام 1997 بالتزوير الشامل. وقد صرحت الاحصائيات الرسمية بأن نسبة المشاركة في حدود 65% على المستوى الوطني في حين لم تبلغ في الواقع حتى نسبة 50% وقدمت نسبة 43% بالجزائر العاصمة في حين أنها لم تتجاوز في الواقع نسبة 17% بالجزائر العاصمة حسب مصادر موثوقة. وتم تقديم التجمع الوطني الديمقراطي وهو الحزب الرئاسي الذي ظهر إلى الوجود قبل ثلاثة أشهر فقط من الانتخابات، على أنه الحزب الفائز بحصوله على الأغلبية النسبية في المجلس الوطني. أما مجلس الأمة، الذي نص عليه الدستور الجديد (لعام 1996)، فيتشكل من (144) عضوا من بينهم 48 يمثلون الثلث المعترض، عينهم الرئس زروال و(96) عضوا يمثلون الثلثين الباقيين ويختارون من بينهم المنتخبين المحليين. وهنا أيضا كان التزوير شاملا، حيث أن التجمع الوطني الديمقراطي أحرز على (80)مقعدا من (96). وهذا مايجعل الرئيس زروال يتحكم في مجلس الأمة بأغلبية (128) صوتا أي بنسبة 90% من أعضائه. في حين أن رئيس الدولة يحتاج إلى 25 % فقط من مجموع الأعضاء لإلغاء أي قانون يوافق عليه المجلس الوطني، حسب ماينص عليه دستور 1996 المعدل. إن التزوير في نسب المشاركة وعلى مستوى حصص الأحزاب يدل بوضوح على غلق المجال السياسي، فضلا عن الحالة النفسية للحكام. فلا الانتخابات الرئاسية في 1995 ولا الانتخابات التشريعية والمحلية في 1997 استطاعت إحداث أي تغيير. فالجنرال زروال، المعين كرئيس دولة في 1994، أصبح الرئيس زروال بعد الانتخابات. وعبد القادر بن صالح، رئيس البرلمان المعين، أصبح رئيس المجلس الوطني. وأحمد (آيت) أويحي، الوزير الأول قبل الانتخابات الوطني تم تثبيته في منصب بعد الانتخابات. التغيير الوحيد المسجل في الميدان هو تأزم الوضع على جميع الأصعدة، بما فيها المجال الاقتصادي الذي قدمت في شأنه علانية وعود وتعهدات من طرف رئيس الجمهورية ورئيس حكومته. وانطلقت المرحلة الانتقالية الرابعة بمجيء عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الجمهورية، فالمصالحة الوطنية والعودة إلى السلم شكلتا محوره الأساسي خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات. فخطابه السياسي بين شهري ماي وسبتمبر 1999 شخّص بدون مجاملة الأزمة المتعددة الأبعاد بتحديد النقائص ومواطن انسداد النظام، وخلق أمل كبير. إلا أن هذا الخطاب لم تتبعه أية إجراءات ملموسة، بعد ثمانية أشهر من وصول بوتفليقة إلى السلطة، في الميدان لتحسين الوضع. لكن يبدو جليا أن عودة العنف الذي يغذيه جناح في السلطة، وتأخر تشكيل الحكومة (8 أشهر بعد وصول بوتفليقة إلى الحكم) والفشل المبكر لقانون الوئام المدني يدل على تفوق الاستئصاليين داخل السلطة. إن الأمل الذي بعثه الخطاب السياسي لبوتفليقة بدأ يتلاشى بسرعة. فكيف يمكن في هذه الظروف تحقيق وعود الانبعاث الاقتصادي في إطار «تنمية سريعة»، والتي جدّدها رئيس الحكومة الجديد المعين في ديسمبر 1999. يعتقد النظام في عام 2000 في إمكان حل الأزمة ببعث الاقتصاد فقط متجاهلا الجوانب الأخرى، لاسيما الجانب السياسي، تماما كما فعله المجلس الأعلى للدولة في 1992. دون أخذ العبرة من هذه الفترة الطويلة التي اتسمت بالتصادم والشقاق والغضب العنيف وتفكيك للمجتمع، وكل أنواع الفشل. فها نحن نعود في عام 2000 إلى نقطة البداية. إننا في حلقة مفرغة. لنذكر مرة ثانية بأنه بين جانفي 1992 وجانفي 2000، تعاقب على الجزائر أربعة رؤساء دولة وسبعة رؤساء حكومة ومئات من الوزراء منهم من تم إقالتهم بعد بضعة أشهر فقط من تعيينهم، في حين أن الجنرالات محمد العماري ومحمد مدين (القريب جدا من العربي بلخير) ومحمد تواتي واسماعيل العماري المسؤولوت عن انقلاب 1992 وعن القمـــع وتأزم الوضـــع في جميع المجـــالات مازالوا في مناصبهم. إن الثمن جد باهظ. فقد تغير شكل الجزائر بشكل رهيب حيث عادت بمدة 30 أو 40 سنة إلى الوراء. ومن جهة ثانية، فالرئيس بوتفليقة أصابه الوهن في أقل من عام من الممارسة هل هو حر في تحركاته؟ لاحظنا أنه إلى غاية شهر مارس 2000(وقت كتابة هذه السطور) لم ينطلق ميدانيا في أي إصلاح من الإصلاحات التي أعلن عنها هو بنفسه لإعادة تقويم الوضع المأساوي للبلاد الذي وصفه هو نفسه بدون مجاملة في شهري أوت وسبتمبر 1999 (اللهم إلا إنشاء لجنة وطنية مكلفة بإصلاح العدالة). أربع مجموعات من الوقائع تؤكد على ضعف بوتفليقة: حركة الجنرالات التي جرت في فيفري 2000 وردود الفعل على الخوصصة (سوناطراك والبنوك والأراضي الفلاحية) والاحتجاجات العمومية الحادة للاتحاد العام للعمال الجزائريين وبعض الشخصيات السياسية ضد شخص بوتفليقة وضد سياسته للوئام المدني وأخيرا تصاعد العنف. 1) من جلاء الأمور أن الحركة التي مست سلك الجنرالات، المعلن عنها في 24 فيفري 2000 من طرف رئاسة الجمهورية، تحمل بصمات الجنرالين محمد العماري ومحمد مدين (المدعو توفيق). إن إحالة عدة جنرالات من قدماء جيش التحرير الوطني على التقاعد، مثل الطيب دراجي ورابح بوغابة وشعبان غضبان ومخلوفي ذيب، وغيرهم، يشكل ثمرة مسار طويل «لتصفية» الضباط السامين الوطنيين الذي شرع فيه منذ 1989. فالتوازن في قمة هرم الجيش الوطني الشعبي، بين المجاهدين والعناصر السابقة للجيش الفرنسي، والمختل منذ اختفاء بومدين والذي ضعف منذ عشر سنوات، قد حسم اليوم نهائيا. فالرئيس بوتفليقة، الوفي لبومدين والضابط السابق في جيش التحرير الوطني (كما يحلو له وصف نفسه) هو الذي وقع المرسوم الذي يضع حدا لمهام آخر جنرالات جيش التحرير الوطني من قدماء المجاهدين. لقد أصبح الجيش تحت رحمة أقلية في جميع المجالات. 2) إن القرار الرئاسي بالإسراع في مسيرة الخوصصة فضلا عن الإعلان عن خوصصة سوناطراك بنسبة 75% والبنوك قد أثار تعليقات وتحاليل كثيرة في الصحافة. وقد قامت يومية الوطن (القريبة من الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق) في بعض مقالاتها إلى توجيه انتقادات لاذعة للرئيس بوتفليقة في أعدادها الصادرة بتواريخ 26 و 27 و 28 فيفري 2000 وأشارت إلى تحفظات أصحاب القرار (أي الجنرالات الاستئصاليين) حول طريقة الخوصصة التي اعتمدها رجال رئيس الجمهورية، مبرزة اختلاف وجوهات النظر، في هذا المجال، بين أحمد بن بيتور الوزير الأول، والوزراء المكلفين بالمساهمة وتنسيق الإصلاحات والطاقة والمالية. فجبهة التحرير الوطني، التي تعد عضوًا هامًا في الائتلاف، ترفض خوصصة سوناطراك والأراضي الفلاحية. ويهدد الاتحاد العام للعمال الجزائريين، على لسان أمينه العام، باللجوء إلى استعراض العضلات لفضح السياسة الاقتصادية للحكومة. «إن السياسات المعلن عنها للإسراع في إصلاح وإعادة تنظيم الاقتصاد الوطني»، لا تتماشى مع «محتوى وغاية المشروع الوطني للخروج من الأزمة كما فهمه وسانده الاتحاد العام للعمال الجزائريين». هذا ما كتبته مجلة الثورة والعمل، لسان حال الاتحاد العام للعمال الجزائريين(1) بعد عشرة أيام من ذلك، هدّد الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين الحكومة مؤكدًا علانية بأن «الذي يتحدث عن الخوصصة دون المرور بنا، سنسحقه»(2). 3) خلال شهري مارس وأفريل، أشارت الصحافة المسماة «المستقلة» والقريبة من الأمن العسكري، إلى فشل سياسة الوئام المدني لبوتفليقة وثارت بحدة ضد مشروع العفو الشامل الذي قد يكون قيد الإعداد على مستوى رئاسة الجمهورية. إن هذه الصحافة تُستعمل أيضا كبوق للضغوطات العلنية الممارسة من طرف الاتحاد العام للعمال الجزائريين وبعض الجمعيات والشخصيات السياسية مثل الهاشمي الشريف وعبد الحق برارحي، الذين يعارضون سياسة الوئام المدني. ومن جهة أخرى، فبما أن غزالي، وهو أحد أقطاب «حزب فرنسا» ووزير أول سابق لبلخير ونزار(1)، يضاعف من تصريحاته الصاخبة ضد شخص بوتفليقة وليس ضد برنامجه، دون ذكر كلمة واحدة عن انحرافات النظام العسكري، تبين بوضوح أن هذا الهجوم على رئيس الدولة مُدبَّرٌ من طرف الجنرالات الاقصائيين. 4) إن تصاعد العنف خلال الأشهر الأخيرة من عام 1999 والأربعة أشهر الأولى من عام 2000، يعود سببه إلى «حزب فرنسا» في هرم المؤسسة العسكرية. نذكر فقط ثلاثة أمثلة معبرة والتي تبرز الرسالة السياسية المشوشة الموجهة للرئيس بوتفليقة من طرف جنرالات «حزب فرنسا». ٭ إنه على كل حال من الغريب أن تقع مجزرة ذهب ضحيتها 29 مواطنًا بريئًا، والمنسوبة إلى الإسلاميين، في أوت 1999 ببني ونيف، قرب بشار، في منطقة يوجد بها أكبر تمركز عسكري بالبلاد، والتي لم تعرف أي نشاط منذ بداية العنف في سنة 1992. ٭ ومن جهة، فقد أعلنت السلطات، في شهر أفريل من سنة 2000، عن طريق الصحافة، عن «تسلل الجماعات الإسلامية المسلحة إلى جنوب وجدة بالمغرب»، وقالوا أن الإسلاميين هؤلاء قد انسحبوا إلى الجزائر، بعد أن قاموا «بنهب عدة منازل» و «زرع الهلع بين سكان جبل العصفور»(2). واضح أن هذه الجرائم قد تم تنظيمها على عدة فترات، من أجل نسف كل محاولة للتقارب مع المغرب، فجنرالات «حزب فرنسا» معروفون، في الواقع، بعدائهم لإعادة العلاقات الإنسانية والاقتصادية مع المغرب وبمعارضتهم لكل مشروع لبناء المغرب العربي. فمن المستفيد من هذه الجرائم؟ إن الإجابة على هذا السؤال تبين لنا مدبري هذه الأعمال الشنيعة، إذا علمنا من جهة أخرى، أن من بين «الخطوط الحمراء» الموضوعة للرئيس بوتفليقة من طرف جنرالات «حزب فرنسا» نجد المغرب في مرتبة جلية. ٭ وتمّ الإعلان أيضًا بأن وزير الفلاحة سعيد بركات قد نجا من محاولة اغتيال يوم الجمعة 21 أفريل 2000، حينما كان في زيارة عمل إلى المقطع لزرڤ في بلدية حمام ملوان (ولاية البليدة)، فقد انفجرت قنبلة على الساعة 15 و30 دقيقة، أي دقائق فقط بعد مغادرة الوزير للمكان المحدد، حيث كان موجودًا مع الوفد المرافق له(1). وقد تم إلصاق هذه المحاولة الإجرامية بالإسلاميين، فمن بوسعه تدبير محاولة مرتبة ترتيبًا جيّدا بهذه الصفة، كان الهلع الذي خلفته أكثر من الضرر، إذا عرفنا الإجراءات الأمنية القمعية الضخمة المتخذة أثناء تنقلات الوفود الوزارية؟ هذا ينم عن حرب نفسية التي لا يعرف سرها غير مصالح الأمن. ٭ في 23 أفريل من سنة 2000، أخبرونا بأنه تم اغتيال سبعة جمركيين غير بعيد عن حاسي مسعود، وهي منطقة بترولية تتوفر على إجراءات أمنية عالية، حيث لا يسمح للجزائريين التنقل فيها إلا بإجازة مرور تصدرها السلطات. وقد أعلنت هذه المنطقة في الواقع «منطقة خاصة» منذ 1994. واتهمت الصحافة المأجورة إسلاميي الجماعة السلفية للدعوة والجهاد التابعة لحسان حطاب، المتمركزة في تيزي وزو، أي على بعد 300 كلم من مكان اغتيال الجمركيين(2). فمكان وتاريخ الجريمة لا يبدوان عفويين. ألا يمثل اغتيال الجمركيين السبعة في «المنطقة الخاصة» رسالة مشفرة من «حزب فرنسا» إلى الرئيس المدير العام لسوناطراك وإلى وزير الطاقة، وهما شخصان محسوبان على بوتفليقة؟ على كل حال، تتزامن هذه الجريمة الدنيئة مع ثلاث وقائع في وقت واحد. 1) تعبيــــر بعــض الصحف الفرنسية علانية عن خيبة أملهم وعن أسفهم، والتي تؤكـــد أن «السلطـــات الجزائرية تفضل الشركات الأمريكية لاستغلال حقول النفط»(1). 2) شراء سوناطراك لنسبة 40% من أسهم الشركة الأمريكية «آركو» في «رورد البغل» في أفريل من عام 2000، وهو الشيء الذي أسال كثيرًا من الحبر (في فرنسا)، بما أن الشركة الفرنسية «ألف» -التي اشترتها كذلك شركة «توتال»- تريد امتلاك حصة «آركو»(2). فمنجم «رورد البغل» كان، في الواقع، يثير شهية «ألف» منذ 1998. 3) وقع حادث اغتيال الجمركيين قبل أسبوع من التوقيع على معاهدة التنقيب والتطوير لحقول بترولية بين الشركة الأمريكية «أميرادا هس كورب» وسوناطراك، في منطقة تثير شهية الشركة البترولية الفرنسية(3). إن هذه الوقائع الثلاث تبرز الإحساس بالإحباط وخيبة الأمل لبعض الأوساط الفرنسية وأتباعهم في الجزائر، وهم جنرالات «حزب فرنسا». تبين مجموعة الوقائع الأربع هذه بأن عملية زعزعة الرئيس بوتفليقة من طرف الجنرالات الاستئصاليين قد انطلقت. إنها نفس الأساليب التي استعملها هؤلاء الجنرالات أنفسهم لزعزعة الرئيس زروال عندما بدأت أول الهجومات تنصب عليه من طرف الصحافة المأجورة في نوفمبر وديسمبر 1996. وقد قاوم إلى غاية سبتمبر 1998 ليعلن حينها عن استقالته. فسواء سيكمل بوتفليقة عهدته أم لا، فالناس يفكرون منذ الآن في من يخلفه. لقد بدأ العد التنازلي من أجل فترة انتقالية خامسة(4). وفي الأخير، هل يمكننا بعد ثماني سنوات من انقلاب 1992، أن نعرف ماهو نوع ونمط المجتمع الذي يريد الجنرالات استئصاليون إقامته في الجزائر؟ هل يريدون إقامة الليبرالية؟ بالتأكيد لا، ليس لأسباب إيديولوجية، لكن لأن الليبرالية تعني الحرية الاقتصادية والمنافسة والمجازفة. والحال هذه، فإن حرية العمل وشفافية السوق ستشكل خطرا على امتيازاتهم الاقتصادية والربح السريع ومناورات مجموعات المصالح المرتبطة بجناح الاستئصاليين. وذلك رغم تمتعهم بالدعم السياسي من طرف الليبراليين مثل حزب التجديد الجزائري وأحزاب أخرى صنعها النظام. هل يريدون إقامة الشيوعية؟ بالطبع لا. لكنهم يحتاجون كثيرا إلى دعم بعض الشيوعيين مثل حركة الهاشمي شريف الديمقراطية في حربهم ضد التيار الإسلامي وضد الحركة الوطنية الأصيلة. هل يريدون الاشتراكية؟ بالتأكيد لا. لسبب بسيط، وهو أنهم ضد الخيار الاشتراكي رغم تمتعهم بالدعم السياسي للاشتراكيين في جبهة التحرير الوطني وأحزاب أخرى مهمشة. فرفضهم للاشتراكية يظهر في عدائهم لجبهة القوى الاشتراكية، وهو أقدم حزب اشتراكي في الجزائر يتمتع بالمصداقية وله تمثيل. بل أن هذا الحزب مرشح للتشويش والزعزعة من طرف مصالح الأمن، لاسيما منذ 1990. هل يريدون إقامة نظام ديمقراطي؟ من البديهي لا. لأن الاستئصاليين لا يمثلون إلا أقلية مقطوعة عن الجماهير، وتعتمد على أحزاب مهمشة تسمي نفسها «ديموقراطية». ولهذا، لا يقبلون لا المنافسة السياسية النزيهة ولا الحريات، لاسيما حرية التعبير. فهم يحاربون الشفافية وسيادة الشعب بالقوة والتزوير، إنهم يرفضون كل شيء. ودائما يقولون لا، فأقوالهم كأعمالهم مبنية على الانحراف والفساد والرشوة. وتتمثل أعمالهم في إبعاد الرجال الشرفاء والنزهاء، وفي معارضة كل مشروع بناء وكل اقتراح إيجابي لصالح السلم والمصالحة الوطنية والصالح العام.. فهم ليسوا ليبراليين ولا شيوعيين ولا اشتراكيين ولا ديمقراطيين، ولا يريدون خاصة سماع الحديث عن التداول على السلطة باعتماد القواعد الديمقراطية. ونظامهم منحرف ومكون من خليط من الميولات السياسية المتناقضة، يرتكز عاملها الأساسي على رفض الحضارة العربية الإسلامية وانضمامهم إلى «حزب فرنسا». باختصار، إنهم في السلطة ويعملون على الاحتفاظ بها مهما كان الثمن. ولا يريدون أي تداول على السلطة مبني على قواعد ديمقراطية. وهكذا نجد أن محمد العماري ومحمد مدين قد شرعا منذ انقلاب 1992، في القيام بتغييرات منظمة لهيكل الجيش، بمناسبة الترقيات الدورية، لصالح تيار «حزب فرنسا» على مدى الأعوام(1). فهم يريدون بذلك سد المنافذ إلى الجيش من أجل تعزيز سلطتهم وسلطة جناح الأقلية، وتفاديًا لكل تغيير، على حساب الشرعية الشعبية وإرادة الأغلبية الساحقة من الجزائريين. أما بخصوص الشعب الجزائري، فهو يتطلع بشغف إلى الديمقراطية والحرية والسلم والعدالة الاجتماعية والكرامة. فالقضية المركزية التي تطرح نفسها بحدة، منذ عدة سنوات، تتعلق بطبيعة النظام نفسها. فليس للنظام العسكري الحالي أية معالم إيديولوجية واضحة ولا قيم أخلاقية وروحية ولا برنامج سياسي ولا استراتيجية اقتصادية ولا رؤية بعيدة المدى. إنه الانسداد التام، ومن جهة أخرى، فإن النقاش حول هذه القضية الأساسية قد انطلق في مارس 2000، عن طريق التراشق الإعلامي بين علي كافي (قائد سابق للولاية الثانية خلال حرب التحرير ورئيس المجلس الأعلى للدولة بين 1992 و1993) وخالد نزار (وهو «فار» من الجيش الفرنسي، ووزير سابق للدفاع وعضو المجلس الأعلى للدولة بين 1992 و1993) زيادة على الاعترافات العلنية التي تلت ذلك، قد بيّن الوجه الحقيقي للنظام. تتمثل الخرجات الإعلامية للجنرال المتقاعد خالد نزار، خلال شهري مارس وأفريل من عام 2000، للدفاع عن «الفارين» من الجيش الفرنسي، الذين وجّه إليهم علي كافي انتقاداته، في تغذية الحقد ضد الذين يختلفون معه ومع جناحه ذي الأقلية، في التفكير، وفي تبرير العنف والقمع الذي يتمنى أن يراه يشتد ويتكثف(2). إنه يتصرف كعراب الدائرة المغلقة «للفارين» من الجيش الفرنسي، ويقدم نفسه هكذا كناطق باسم الجيش الوطني الشعبي، في الوقت الذي لم يعد يشغل فيه أية وظيفة رسمية. فنجده ينتفض بطريقة عنيفة ضد تصريحات الجنرال محمد عطايلية(1)، الذي ينادي بوقف إراقة الدماء باقتراحه العفو الشامل والمصالحة الوطنية لإخراج الجزائر من الأزمة التي اقتيدت إليها. فليس للجنرال المتقاعد خالد نزار من كلام سوى العنف، والعنف ثانية، والعنف دائما. إن ضجيجه الإعلامي وخطاباته الفخرية لا تساهم في دفع النقاش إلى الأمام، بل إنها تبين كذلك تفاهة الخطة الصارفة التي دشنها انقلاب جانفي 1992، والمبنية على العنف والقمع. إن الشعب الجزائري أنهكته هذه الخرجات الإعلامية والعواقب المأساوية للحرب الجارية في الجزائر والتي يقودها منذ أكثر من ثماني سنوات «الفارون» من الجيش الفرنسي و»حزب فرنسا»، وهو الآن يتطلع إلى السلم وإلى التغيير بالسبل الديمقراطية. ليس بوسع قيادة الجيش مواصلة التدخل وفرض نفسها على الشعب الجزائري الراشد. يجب على الجيش ومصالح الأمن الكفّ عن التدخل في الحياة السياسية، والعودة إلى القيام بالدور الذي حدّده لها الدستور. قد يتساءل بعض الناس، في بداية هذا القرن الواحد والعشرين، بعد 38 عامًا من استقلالها، إن كانت الجزائر أحسن حال في ظل الحكم الاستعماري الجديد لجنرالات «حزب فرنسا» من وضع الاحتلال الذي كانت تخضع له. إن مجرد التفكير في سؤال من هذا النوع يبين درجة الخطورة والتميع الذي وصل إليه المجتمع الجزائري اليوم. وأظن، حسب رأيي الشخصي، أن الشعب الجزائري في غالبيته العظمى، يرفض الاستعمار القديم كما يرفض الاستعمار الجديد. لهذا، فقد آن الأوان لتُعاد إلى الشعب سيادته وحريته في اختيار ممثليه وقادته في الشفافية والشرعية. فالمصالحة الوطنية هي وحدها الكفيلة بإخراج الجزائر من الأزمة المتعددة الأبعاد ومن الإنسداد الحالي بفضل حوار شامل بين السلطة والأحزاب السياسية المستقلة والممثلة فعليا، دون إقصاء. الهدف من هذا الحوار هو الإعداد للرجوع إلى السيادة الشعبية في ظل الشفافية والديمقراطية دون غش ودون تزوير للأحداث والحقائق. إن العودة إلى الديمقراطية يمر بالضرورة بمرحلة انتقالية تتميز على الخصوص بما يلي: - وضع حد لإراقة الدماء. - رفع حالة الطوارئ. - إطلاق جميع المعتقلين السياسيين. - تجريد الميليشيات من السلاح. - إلغاء جميع النصوص التشريعية والتنظيمية الصادرة منذ جانفي 1992. - وضع حد للممارسات القمعية (التوقيف التعسفي، الاختطاف، التعذيب، التصفية الجسدية خارج حكم العدالة). - احترام الحريات، لاسيما حرية التعبير، بما فيها استعمال ممثلي الأحزاب السياسية لوسائل الإعلام الضخمة المسيرة بأموال الضرائب التي يساهم بها المواطن. فوحدها إجرءات تهدئة من هذا القبيل، وفق مخطط وفي آجال محددة، من شأنها خلق ظروف تسمح باستعادة الأمن وتكريس المصالحة الوطنية. فبدون مصالحة وطنية وأمن لن تكون هناك ديمقراطية ولا انبعاث اقتصادي ولا استقرار ولا استثمارات أجنبية (خارج المحروقات، حيث ليس للاستثمارات أي تأثير على الشغل ولا على ميزان المدفوعات). لقد آن الأوان للقيام بتسوية سياسية للمأساة الجزائرية التي تفاقمت منذ 1992، والعودة إلى المسار الانتخابي، واحترام السيادة الشعبية، مما يسمح ببروز مسؤـــولين وطنيين أكفــاء يحافظون على المصلحة العليا لتسيير الشؤون العامة في الشفافية.
|